المدرسة وقفاً أيديولوجياً

03 مايو 2015

ساحة مسجد الزيتونة في تونس (15 مارس/2015/Getty)

+ الخط -

ورثت النخب التونسية منظوراً للمدرسة، يراها ذراعا أيديولوجيا للدولة، وبالأحرى للنخبة الحاكمة. ربما نجد في التاريخ الاجتماعي والسياسي الوطني ما يبرر ذلك. كانت النخب الحاكمة القادمة من المدارس الفرنسية ترى في المدرسة محضنة، تعلم الناس "مبادئ الجمهورية" قبل كل شيء. هذا التعويل على المدرسة أرهقها تدريجياً، وجعلها تفشل في رسالتها الأساسية الأخرى المتعلقة بالمعرفة والعلم والابتكار. كانت النخب الحاكمة، بعد الاستقلال، تخوض تجربة تحديث جريئة، وأحيانا متعسفة، ولم يكن لها حل، وهي تخوض تجربة تصفية جيوب المقاومة وخصومها سوى ترسيخ المزيد من الشمولية، كانت المدرسة والإعلام والإدارة مسخرة لهذا المشروع. نظام السخرة هذا حول المدرسة إلى جهاز إيديولوجي يعلم الناس ما تنتظره الدولة، وبالذات ما تشتهيه النخبة الحاكمة.

خلال أكثر من نصف قرن على استقلال البلاد، تم تدوير النخب من داخل النظام نفسه، ولكن لم يتم تجديد النظر إلى المدرسة، وظلت على حالها ذراعاً إيديولوجياً للنخب وتوجهاتها، تم استلحاق المدرسة ضيعة تزرع فيها النخب كائنات تحرسها وتعيد إنتاج منظورها وحاجاتها.

انفجرت أوعية المعرفة ومحاميلها، واندلع تنافس شرس بين مختلف دوائر التنشئة الاجتماعية، القديم منها والجديد، بحكم النمو المذهل لتكنولوجيات الاتصال، وارتبكت المدرسة حتى فقدت عدداً من وظائفها، فضلا عن صورها ورمزياتها، ومع ذلك، ظلت تلك النخب مصرة على ألا تنظر إلى المدرسة إلا من تلك الكوة.

تصر بعض النخب المحسوبة على الحداثيين، و"اليسار" بشكل عام، على حبس المدرسة، وجعلها "أوقافها الإيديولوجية" الخاصة بها. تسطو هذه النخب على مرفق عام، يفترض أن يكون مختبراً للمعرفة والمواطنة، وتصر على "صناعة الناس"، وفق قوالبها الجاهزة، متناسية أن الناس، وخصوصاً الأطفال، لا يطلبون السمك، لكنهم يرغبون في تعلم كيفية اصطياده.

لم تعد المدرسة ذلك الفضاء المغلق الذي نودع فيه أطفالاً، "يقولبهم" المدرسون كيفما شاءوا، إلا إذا أرادوها مخيمات للحشد الإيديولوجي. تبدي المدرسة والأطفال معا جيوب ممانعة وصد كثيرة مستندين إلى اقتحام المحيط، بإكراهاته وضغوطه، هذه المدرسة بالذات، لينافسها ويطوعها رغماً عن إدارة المدرسين والنخب. رأينا في السنوات الأخيرة كيف تراجع بريق المدرسة، وكيف تبعثرت رسالتها تحت وطأة بطالة الملايين من خريجيها، وكيف تراجعت صورة المدرس وهيبته، وطلابه يشهدون انحدار مرتبته في السلم الاجتماعي.

النهم الإيديولوجي على المدرسة جعل من هذا "اللوبي" يتصرف وفق سلوك العصابات المتفردة بالغنيمة، فلم ينفتح خيالها على دعوة اتحاد الصناعة، مثلاً، ومنظمات وطنية عديدة معنية بالشأن التربوي، فالقطاع الخاص، مثلاً، يوظف أكثر من 70% من اليد العاملة، خصوصا حاملي الشهادات العليا، ومع ذلك، فعل هذا اللوبي الشيء نقسه مع من يعتبرهم أعداء مشروع الحداثة.

تمنح المدارس في الدول المتقدمة لطلابها فرصة لبناء الذات، والتجريب العلمي والمغامرة المعرفية في سياق تنافسي، وتمنح المدرسة التونسية لأطفالنا متاريس إيديولوجية، سرعان ما تنهار على آخر عتبة منها يغادرها أطفالنا.

تحطم تونس رقما قياسيا في عدد ما تمنحه من "يد عاملة" للجماعات الإرهابية، تموت على جبهات القتال من الشيشان إلى مالي، هؤلاء هم أبناء مدرسة "المواطنة الكونية" والحداثة والعقلانية إلخ.... أبناء أحداث سليمان 2006 هم أبناء إصلاحات 1991، أما أبناء الموجات الإرهابية الأخيرة فهم، بلا شك، أبناء مدرسة إصلاحات 2002. وقد أنتجت هذه المدرسة بالذات القائمة على وهم "الإيديولوجيا الحداثوية"، في السنوات الأخيرة، أطفالاً ينتحرون، وشباناً يدمنون بشكل غير مسبوق، في تناقض تام مع الأهداف التي رسمتها إصلاحات المقاولين. آن الأوان لمراجعة بعض من يقينياتنا الواهمة. لم يتساءل هؤلاء المقاولون عن أسباب ذلك، لكنهم مضوا في تسليح مقولاتهم للانقضاض على المدرسة. إنهم المقاولون أنفسهم، ولكن يشتغلون على نمط الشركات الوهمية.

المحطات الثلاث الكبرى للإصلاح التربوي التي شهدتها البلاد التونسية: سنوات 1957 و1991 و2002 كانت ناجمة عن ضغوط شديدة. ولكن، في كل مرة، كانت النخب الحاكمة وسدنتها من "الإيديولوجيين الحداثويين" يطلبون من المدرسة أن تكون ثكنتهم، حتى تهيئ لهم جيشا لمواجهة التخلف في معركة الجهاد الأكبر مع الحبيب بورقيبة، ومكافحة الظلامية مع بن علي، وأخيراً الانخراط الدولي في مواجهة الإرهاب على إثر أحداث سبتمبر/أيلول 2001، ويعمل بعضهم، حالياً، على تجنيد المدرسة وأطفالنا في معارك أخرى مقبلة، لا تقل ضراوة عن تلك المعارك. هل تتحمل المدرسة كل هذا، وهي في سياق معولم، أفقدها عديداً من مهامها. تساهم المدرسة، ولا شك، في خوض معارك مجتمعية، ولكن لا أحد يجبرنا على أن نسلم أطفالنا جيشا تخوض به تلك النخب معاركها الخاصة، أيضا منتحلة صفة المجتمع.

علينا أن ننظر إلى تجارب أخرى، غير الفرنسية، لأن المدرسة الفرنسية لم تعد نموذجاً، ولأن هذه المدرسة بالذات تم حشرها في معارك النخب والحكومات المتعاقبة في تلك البلاد، وهو ما لم تفعله الحكومة البريطانية أو الألمانية أو الأميركية مع مدارسها، على الرغم من أنها تواجه التحديات نفسها.

هل علينا بنمل سليمان، لنتفطن أن السوس قد أتى على مدرستنا، وأنها ستقع على رؤوسنا جميعاً، وأولهم من يسارع، الآن، للفوز بهندسة "إصلاحاتها" المقبلة.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.