المثقّف العربي: الموت برداً أو في العناية المركّزة

16 أكتوبر 2015
شربل صامويل عون / لبنان
+ الخط -

لا يتوقّف النقاش في الأوساط الثقافية المغربية حول غياب الحد الأدنى من الحقوق الخاصة بالمثقفين والفنانين، وانعدام الظروف الخاصة بالعمل الثقافي. طالما نادى الكتّاب والفنانون بمؤسّسات تدافع عنهم وتوفّر الشروط التي تضمن احترام وضعهم المعنوي.

لا يمكننا أن نتحدّث عن صناعةٍ للكتاب، في وقت لا شيء يكفل فيه الكاتب. ولا يمكننا الحديث عن نهضة مسرحية أو سينمائية في غياب دينامية إنتاج تضمن عائدات ثابتة تكافئ الجهد اليومي الذي يصرفونه في الفن. إننا ندور دائماً داخل تلك الحلقة المفرغة: "لا يمكن للفنان أن يعيش من منتوجه الإبداعي".

من المتوقّع أن يدفع انحسار المقروئية، وكذلك قلّة اهتمام فئات عريضة بالفنون، بسبب نظرها إلى الفن كترف غير قادرة عليه، الدول والمؤسّسات القريبة من الثقافة وعالمها، إلى إيجاد السبل الكفيلة بانخراط الفنانين في شرايين الاقتصاد، بعيداً عن منطق الإقصاء الذي يجدون أنفسهم محاصرين فيه.

من جهة أخرى، لا ينبغي أن ننكر بروز مؤشّرات، وإن بدت خفيفة، تدل على ظهور أسماء باتت قادرة على تجاوز هذا المطب الاقتصادي، وإن غابت الأرقام الدقيقة في هذا الجانب؛ ما يتيح لهؤلاء حضوراً متزايداً في أفقهم الإبداعي. لكن، لا بد من معرفة الثمن الذي دُفع مقابل ذلك.

"العربي الجديد" استطلعت آراء عدد من المثقّفين حول هذه النقاط. يعتقد الباحث المسرحي المغربي أحمد بلخيري أن على المثقف التضحية بالكثير مما يتمتّع به الآخرون، في سبيل تأدية دوره على أكمل وجه.

يضيف بأن "الفنان مواطن أيضاً، ويجب أن يتمتّع بالرعاية الصحية التي تقيه حرج السؤال، وحتى لا تستغلّ أي جهة مرضه". يعقّب قائلاً: "لا يُعقل أن تحارِب السلطة المثقف في حياته، ثمّ تستغل مرضه في آخرها".

يستحضر بلخيري تجارب "مؤلمة" عاشها الروائي محمد زفزاف والباحث عبد الرحيم مودن في آخر أيامهما، مُشدّداً على ضرورة ابتكار سبل تُمكّن المثقّف من الاستفادة من الرعاية الصحية دون أن يتخلّى عن حرّيته.

من جهته، لا يحبّذ الشاعر المصري، شريف الشافعي، فكرة تعويل الكاتب على أية مؤسسة أو جهة؛ لأنه "سيجني التجاهل منها. أمّا إذا جنى شيئاً ملموساً، فلن يكون ذلك دون تقديم تنازلات تخلّ بتحرّره واستقلاليته".

في نظره، فإن "الكيانات الثقافية السلطوية، بما فيها اتحادات الكتّاب، ليست سوى فضاءات لتدجين المثقّف وإدخاله بيت الطاعة، في مقابل بعض المكتسبات، مثل الرعاية الاجتماعية والصحية، التي تُقدّم إليه بوصفها منحة".

برأي الشافعي، "يجب أن تُوفَّر الرعاية الاجتماعية والصحية لمن يستحقّها، بغضّ النظر عن مكانته الأدبية والاجتماعية". يضيف: "يجب أن يُنظر أوّلاً إلى حاجة الشخص، بغضّ النظر عن كونه كاتباً أو عالماً، حتّى لا يُحرَم الأميّ والطفل المشرّد في الشارع".

أمّا الشاعر السعودي إبراهيم زولي، فيعتقد أن المثقّف العربي يعيش حالة من التسوّل لا تليق بمكانته ودوره في المجتمع: "ثمّة كتّاب كبار يعيشون وضعاً مزرياً ومهيناً".

وعن وضعية الكاتب في بلدان الخليج العربي، يكشف أنه لا بدّ من تخصيص صندوق لرعاية المثقف وتلبية احتياجاته، قبل أن تتكرّر حالات اضطرّ فيها مثقّفون إلى استجداء العلاج والقوت وإيجار المسكن، كما حدث للشاعر السعودي الراحل محمد الثبيتي، خلال مرضه.

إضافة إلى الجانب الاجتماعي، يشير زولي إلى أن "الكاتب العربي معرّضٌ دائماً إلى الاتّهامات الجاهزة كالتكفير والعمالة، ولا وجود لأية جهة تقف جدياً إلى جانبه"، رابطاً هذا الوضع بوضع عام تعيشه الثقافة العربية التي "لم تتعدّ كونها ديكوراً وواجهة".

يختم حديثه بالقول بأنه "رغم ما نمرّ به من تحوّلات بنيويّة جسّرت الفجوة بين السياسي والمثقّف ورجل الشارع، لا يزال المثقّف في الهامش".

ويعتقد الكاتب السوري، عمر يوسف سليمان، أن المجتمع والمؤسّسة يشتركان في "تهميش" الكاتب العربي، وهو يرى أن غياب جمعيات مستقلّة للكتّاب، يُجبر هؤلاء على الارتباط باتحاد الكتّاب العرب أو وزارة الثقافة اللذين يقول "إنهما مؤسّستان أثبتتا فشلهما في حفظ كرامة الكاتب والوقوف إلى جانبه في حال تعرّض إلى أزمة سياسية أو صحية".

هنا، يذكّر سليمان بمحنة الكاتب السوداني محمد بهنس الذي مات برداً في شوارع القاهرة، من دون أن يلتفت إليه أحد.

من جانبه، يقول الناقد المغربي، فريد أمعضشو، إنه وباستثناء قلّة من الكتّاب الذين يعيشون مستوى من الرفاه الاجتماعي والاقتصادي، فإن الغالبية تعاني الفاقة، وليس لها مورد رزق قارّ، دون الحديث عن غياب خدمات العلاج المجاني.

يتأسّف أمعضشو لـ "حال كُتّاب وفنّانين قدّموا الكثير، لكنهم لم يجدوا إلى جانبهم أيّة جهة ذات صلة بالشأن الثقافي، كوزارة الثقافة واتحاد الكتّاب، حين أقعدهم المرض"، مستشهداً هنا بحالة الشاعر الراحل محمد بنعمارة.

يضيف: "يُفترض أن يحظى المبدع بوضع معنوي محترم، لأنه يُغني رصيد بلده الرمزي والأدبي والفكري. توفير شروط حياة أفضل، من شأنه أن يكون محفّزاً على مزيدٍ من العطاء والإنتاج".

تنامى في الوسط الثقافي خلال السنوات الأخيرة، وعي حاد بضرورة تجسيم الوضع المعنوي للكاتب والفنان، في أطر قانونية ومؤسساتية، في الوقت الذي ما زالت تصادفنا فيه "حالات إنسانية" لبعض وجوه الثقافة والفن لا تناسب هذا الطموح.

ويبدو أن جهات تحاول تكريس هذا الوضع، فطالما استفادت منه، لعقود، الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية، حين وُضع كل ما هو ثقافي كـ "متّهم قبل الإدانة"، وبالتالي أُجبر المثقفون على خيارين لا ثالث لهما، إما القبول بالاحتواء أو التمرّد.

لعل نتائج هذا التوجّه تنعكس في حالة المرض؛ فبينما يُصارع الكاتب المصري، جمال الغيطاني، المرض في العناية المركّزة، يتابع الفنان المغربي حاتم إدار رحلة العلاج من مرض السرطان بـ "رعاية" من الدولة المغربية، ويقضي الفنان المغربي أحمد الصعري أيّامه وحيداً في أحد مستشفيات الرباط.

وفي معظم البلاد العربية، لا زالت هذه الرعاية الصحية جزءاً من عطايا الحاكم يمنّ بها على من يشاء ويحجبها عمّن يشاء، ما يجعل الساحات الثقافية في العالم، لا تخلو من حالات مأساوية لمثقّفين، حين يصلون إلى الشيخوخة أو يلمّ بهم مرض أو غيره من الأسباب.

غير أن ربط الوضع المعنوي بمسؤوليات الدولة، عادةً ما يُعيد إلى الواجهة النقاش حول ما يطلِق عليه بعضهم "محاولات السلطة تدجين الوسط الثقافي" واستمالة أسمائه لخدمة أجندتها الخاصة وتسويق خطابها، ومن وراء ذلك تلميع صورتها، بحثاً عن وسائل لابتلاع الثقافة، بل إن بعضهم يرى في مقولة "الوضع المعنوي" مجرّد "خرافة" ابتدعها "مثقّفو السلطة".



اقرأ أيضاً: المغرب: الأمية المخيفة وسؤال القراءة

المساهمون