ما زلت أتذكر خطاباً للمستشار الألماني السابق غرهارد شرودر في جمع كان من بين حضوره الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، وما زلت أذكر كيف أنه عبّر عن سعادته بقوة لأن أستاذه هابرماس تحديداً من بين الحضور، كما أني أتذكر اللقاء الذي جمع إمانويل ماكرون ووزير الخارجية الألماني زيغمار غابرييل بهابرماس قبيل الرئاسيات الفرنسية، وكيف بدا، من خلال الحوار، بأن الفيلسوف هو من يقود النقاش ويرسم معالمه، ولربما يذكرنا كل ذلك بكتاب كانط "صراع الكلّيات"، وفيه يؤكد على ضرورة أن نُخضع كل الكلّيات الأخرى للفلسفة، أو للعقل.
ولكن إذا انتقلنا إلى الضفة الجنوبية من المتوسط، وحاولنا أن نكتب تاريخاً موضوعياً لهذه العلاقة بين المثقف والسلطة في المجال العربي، ستصيبنا خيبة كبيرة، لأننا سنكتشف في غالب الأحيان أن المثقف لا يحافظ على استقلاليته واستقلالية مجال فعله، بل إنه ينشد بكل قوة، مغادرة الثقافة إلى السياسة، واستبدال جبة المثقف بجبة رجل السلطة.
لربما لم يفهم مثقفنا دوره جيداً، ولا فقه أهمية الثقافة بالنسبة لتحرّر الشعوب وتطوّرها، ولربما بسبب أنه تربّى في مدرسة الاستبداد لا يمكننا أن نطالبه بأكثر مما هو عليه، ولهذا إذا تأملنا بموضوعية ما يكتبه المثقف العربي سواء كان شعراً أو رواية أو فكراً (لا نعدم الاستثناءات بالطبع)، سنشعر بأنها كتابات يعدمها الصدق الفني، ويقف في أغلب الأحيان خلفها أكاديمي أو صحافي أو مهرّج أو مدعٍ للثقافة أو رجل سلطة، ولكننا لن نجد كثيرين نقارنهم بكبار كتّاب الغرب أو فلاسفته، وإن وجدنا، فاستثناءات أو صيحات في واد.
إن الكذب الذي يخترق السياسة، كما أوضح ألكسندر كويري وبعده حنة آرندت، لن يتوقف عندها، بل بتنا نشهد حضوره القوي في المجال الثقافي، في الغرب أيضاً وليس عندنا فقط، إننا نسوّق للكذب ونقرأ الكذب ونمنح الجوائز للكذب ونجعل الكذب قيّماً على ثقافتنا.
ولا عجب، والحال هذه، أن ينفر الجمهور الواسع من الثقافة، لأنها مجرّد كذب ويجد بعض هذا الجمهور ضالته في كتب وثقافة تؤسس لكذب لا يقل قبحاً، كذب ميتافيزيقي، يحرم الناس من الحياة في الواقع، يحجبه عن أعينهم وعقولهم. ومع ذلك، يحق لنا أن نتساءل عن طبيعة الموقف الذي يمكن للمثقف المستقل أو الذي يطمح إلى أن يكون مستقلاً أن يأخذه إزاء السلطة؟
أعتقد أن على هذا المثقف أن يتحلى بكثير من الإيرازمية وقليل من اللوثرية، ولكن لا يمكنه البتة أن يكون ميكيافيلياً. لأنه بمجرّد انتقال المثقف إلى المنطق الميكيافيلي، يكون قد دخل في عالم السلطة وسراديبها.
أقول كثيراً من الإيرازمية وقليلاً من اللوثرية، وأستند في فهمي للموقفين إلى كتاب ممتع ومهم للكاتب النمساوي ستيفان زفايغ، ترجمه الكاتب اللبناني فارس يواكيم إلى العربية مؤخراً. من خلال هذا الكتاب سنتعرف على شخصيّتين أساسيتين في التاريخ الثقافي الأوروبي وهما إيرازموس ومارتن لوثر.
يكتب زفايغ عن إيرازموس قائلاً: "ناضل إيرازموس ضد التعصّب بكل أشكاله، سواء أكانت مصادره دينية أو قومية أو ثقافية، ورآه مدمراً بالفطرة لكل وفاق. كان يمقتهم جميعاً: المتشبثون بالرأي، أحاديو التفكير، سواء أكانوا يرتدون جبة الكهنوت أو ثوب الأستاذية، وأصحاب الأفق الضيق والمتطرفون من كل عرق وطبقة، الذين في كل مكان يطالبون بخضوع أعمى لمعتقداتهم الذاتية، وينعتون كل صاحب رأي آخر بالدناءة والزندقة.
وكما لم يجبر أحداً على اعتناق أفكاره، رفض بحسم الانسياق وراء أي عقيدة دينية أو سياسية. إن استقلالية الفكر هي من البديهيات. أما الذي يستخدم المنبر أو المنصة ليبشر بحقيقته الذاتية كما لو أنها رسالة همس بها الله في أذنه، وفي أذنه وحده، فهو ـ في نظر ذلك الرجل صاحب الفكر الحر ـ يعمل على وأد تنوّع العالم كما خلقه الله".
إن الإيرازمية مرادفة لاستقلالية الرأي والقبول بالتعدد الفكري والتنوّع البشري. ولهذا كان لها، طال الزمن أو قصر، أن تصطدم بثورية لوثر أو باللوثرية، ليس لأنها تختلف معها في الهدف، بل لأنها تختلف معها في المنهج أو الوسيلة، فالإيرازمية ترى أنه لا يمكن تحقيق إصلاح عبر العنف، وترى أن إنسانية الانسان تتحقق في السلام وليس في الحرب أو العنف، في حين تمثل اللوثرية ثورة لا تبقي ولا تذر على من استعبد الإنسان وزيّف الدين لمآربه الخاصة، لكنها في ثورتها تلك، لم تستطع أن تكون حرة، لأنها أسّست لاستبداد جديد، فمن خالفها الرأي، قطعت رأسه.
بل إن إيرازموس نفسه لم يسلم من تطرفها، وسوف تحاسبه على صمته، لأنها اعتبرت استقلاليته وحياده في الصراع الديني خيانة لقضية الإصلاح، هو الذي ما برح يقول: "أينما التقيت بالحقيقة، اعتبرها مسيحية" أو مردداً ما قاله شيشرون: "يبقى السلام غير العادل أفضل من أكثر الحروب عدالة".
لكن هل يعني كل ذلك أن على المثقف أن يلزم الحياد دائماً وأبداً؟ هل عليه ألا يسمي المستبد باسمه؟ ألا يفعل ذلك باسم السلام أو العقل؟ أعتقد أنه من الخطأ الدخول في صراع مع السلطة إلا إذا نضجت الظروف التاريخية، والمثقف الحقيقي هو أيضاً من يلمس نضج تلك الظروف ويحسن قراءتها، فما يملكه المثقف هو نظرته الثاقبة إلى المجتمع، لهذا لا يمكن الحديث اليوم عن مثقف، ما لم يدرس بعمق العلوم الإنسانية وعلى رأسها علم الاجتماع، ولا يدرك الاتجاهات المختلفة للعلاقات الدولية وإلى أي حد يمكن للقوى الكبرى أن تتدخل لحماية الاستبداد، حارس مصالحها وحدودها.. إلخ..
ولربما هذا ما أدركه لوثر بالفعل، فهو لم يكن ثورياً فقط، ولكنه كان قارئاً حصيفاً لمجتمعه وكان يشعر بنقمة الناس الكبيرة على البابوية، ونقمة الأمراء أيضاً. نعم إن المثقف العربي يحتاج اليوم، بالنظر إلى الظروف المحيطة بنا، إلى كثير من الإيرازمية، وقليل من اللوثرية، ولكن قد تأتي أيام يكون الموقف اللوثري فيها، هو الموقف الوحيد الممكن، أو هو الطريق الأوحد إلى ذلك الاستقلال المنشود.