10 نوفمبر 2024
المتمجّدون الجدد
في مقطع مصوّر، تداولته الشاشات الصغيرة والصغيرة جداً، لجلسة عادية، بل وأكثر، من جلسات مجلس "الشعب" المصري، المنتخب حديثاً، بدا نائبٌ من غير المحسوبين على المعارضة (وهل في البرلمان المصري من معارضة؟)، وهو يوجّه، بهدوءٍ جمّ، سؤالاً "روتينياً" ربما إلى لجنة المال أو وزيره أو إلى لجنة الدفاع أو وزيره أيضاً. يتعلق السؤال/ الجريمة، كما سيتبيّن لاحقاً، برواتب العسكريين المتقاعدين، والذين ينضمون للعمل، أو هم يُلحقون للعمل، في شركاتٍ أو مؤسساتٍ مدنية عامة أو خاصة. يتساءل النائب/ الضحية عن دمج رواتبهم الجديدة برواتبهم التقاعدية الآتية من "مؤسسة" الجيش. بالطبع، السؤال متعلّق بأصحاب الرتب الكبيرة، لأن صغارهم، وعندما يُحالون على المعاش، لن يُعاد إدماجهم في أية مؤسسة مدنية، عامة أو خاصة، لأن مجرد تقاعدهم المبكر مؤشّر على نقطةٍ سوداء تُلطّخ سيرتهم الذاتية. إذاً، النائب المسكين، يطلب توضيحاتٍ إدارية حول مسألة مالية محدّدة.
أتى هذا السؤال "البريء" في خِضمِّ "دوشةٍ" تشبه التي تابعناها صغاراً في مسرحية "مدرسة المشاغبين" الفكاهية، فجميع من كان حول النائب السائل المسكين، انهمك في الحديث بصوت عالٍ أو ممارسة الضحك وتبادل الابتسامات، أو في أشدّ المواقف تهذيباً، كان غارقاً في مقارعة ألعاب الهاتف الذكي، أو مشاهدة مقاطع مصوّرة، تتفاوت نوعياتها حتماً من نائبٍ إلى آخر، حتى أن صوت أحد الجالسين خلف النائب المتحدّث كان مسموعاً بدقة، وهو يروي "حدوتة" لجاره. هذا الجالس الخلفي، يُعدّ "عَلماً" من أعلام هذا المجلس كما الأندية الرياضية، وهو الذي سبق وهدّد علناً، قبل أيام، باقتراف "جريمة" إن نفّذ المجلس حكم محكمة النقض، القاضي بنزع العضوية عن نجله، وإعلان فوز نائب آخر تبيّن للمحكمة، وبصحوةٍ قضائيةٍ نادرة، أنه فعلاً حصل على أعلى الأصوات في دائرته الانتخابية، قبل التزوير والتلاعب في احتساب الأصوات.
في هذا الجو المشوّش، وضمن هذه الأصوات المتداخلة، قطع رئيس المجلس حديث النائب المُستفسر بصراخٍ، هو أقرب إلى ما يصدر عن أصحاب مقاهي الأحياء الشعبية عند المناداة على النادل. وقد حمل هذا الصراخ كل مؤشرات الغضب والثورة، طالباً من النائب الصمت والتوقف عن التطرّق إلى هذا الموضوع، بخصوص ازدواج الأجور. وعلى الرغم من أنه ليس من وظيفة رئيس المجلس أو الجلسة أن يُجيب، بل عليه أن يُحيل إلى المسؤول المعني للإجابة، إلا أن رئيس المجلس وجد أن من الضروري عدم الاكتفاء بالتطرّق إلى قرارٍ للمحكمة الدستورية في هذا الخصوص، وشعر بأن من المحتّم عليه أن يُضيف ما يلزم حتى "يُبرّئ" نفسه من تهمة "السماح" للتعرّض إلى خطوطٍ حمر، تحت قبة برلمان الشعب، فبدا وكأنه يتهم النائب، المسكين دائماً، بالخيانة العظمى، لأنه يتعرّض إلى مسألةٍ إداريةٍ تخصّ "حماة الوطن".
"انتهى الكلام"، هكذا خوطب النائب، وأضاف رئيسه بصوت جهوري، ارتجفت له ضفاف
النيل، "لا يجوز لك أن تقول هذا الكلام عمّن قدّم ضريبة الدم من القوات المسلحة"، واشتعلت القاعة بالتصفيق، وكادت النائبات أن يزغردن. وانتقل الرئيس الصنديد ليُعطي الكلام لنائب آخر، بدأ كلامة بشكر "الريّس" على منحه الكلام، فتذكّر هذا الرئيس أن التمجّد والمغالاة في مديح الجيش غير كافية، في إطار إهانته النائب الأول المسكين الذي جلس في مكانه، راسماً ابتسامة الخوف في مسرح العبث هذا، فانبرى ليزيد قائلاً "يجب عندما يتكّلم أي عضو عن القوات المسلحة أن يقف إجلالاً لهم"، فوقف المجلس برمته مصفقاً.
في مرحلة أخيرة، حاول النائب الثاني، الذي تم منحه الكلام، أن يدلي بما لديه، إلا أن الرئيس قاطعه، للمرة الثالثة، صارخاً بالعنفوان نفسه، إنه لن يقبل مثل هذا الكلام في قاعة المجلس الذي ينحني (بعد أن وقفوا) كل أعضائه إجلالاً للقوات المسلحة. لربما شعر "الريّس" أن في تكرار العبارة الأصمعية يمكن لمحضر الجلسة الذي سيُعرض على الجهات المختصة أن يكون أكثر إرضاءً وإشباعاً. وتابع مهدّداً، بوضوح، إن الرسالة يجب أن تكون قد وصلت، ليس للعضو المكلوم فحسب، بل إلى كل الأعضاء الذين يحاولون أو سيحاولون الفصل بين الشعب والجيش في مصر (...).
تعتبر مسألة الشفافية المالية ألف باء عملية إصلاح القطاع الأمني والقوات المسلحة في أي بقعة في العالم. وقد أعدّت منظمة الشفافية العالمية ملفاً ضخماً في هذا التخصّص للإفادة. يبدو أن النائب "الجريء" قد وقع عليه، فخُيّل له أن له دوراً تشريعياً ما في هذه المعمعة، وأن طرح سؤاله البريء حتماً، وغير المشوب بأية رغبةٍ تآمريةٍ على أمن الوطن وسلامته، لن يُقيم السيد الرئيس ونوابه الأجلاء عن مقاعدهم الوثيرة.
قيام النواب والنائبات، مثل طلاب المدارس في حضور السيد الناظر، للتصفيق على ما ورد في كلام "الريّس"، دليل جديد على تشوّه المشهد العام، وعلى إعادة إنتاج الاستبداد في أسوأ أشكاله، عبر "المتمجّدين" الذي قال عنهم عبد الرحمن الكواكبي، منذ نيف ومائة عام، إنهم "أعداءٌ للعدل أنصارٌ للجور".
أتى هذا السؤال "البريء" في خِضمِّ "دوشةٍ" تشبه التي تابعناها صغاراً في مسرحية "مدرسة المشاغبين" الفكاهية، فجميع من كان حول النائب السائل المسكين، انهمك في الحديث بصوت عالٍ أو ممارسة الضحك وتبادل الابتسامات، أو في أشدّ المواقف تهذيباً، كان غارقاً في مقارعة ألعاب الهاتف الذكي، أو مشاهدة مقاطع مصوّرة، تتفاوت نوعياتها حتماً من نائبٍ إلى آخر، حتى أن صوت أحد الجالسين خلف النائب المتحدّث كان مسموعاً بدقة، وهو يروي "حدوتة" لجاره. هذا الجالس الخلفي، يُعدّ "عَلماً" من أعلام هذا المجلس كما الأندية الرياضية، وهو الذي سبق وهدّد علناً، قبل أيام، باقتراف "جريمة" إن نفّذ المجلس حكم محكمة النقض، القاضي بنزع العضوية عن نجله، وإعلان فوز نائب آخر تبيّن للمحكمة، وبصحوةٍ قضائيةٍ نادرة، أنه فعلاً حصل على أعلى الأصوات في دائرته الانتخابية، قبل التزوير والتلاعب في احتساب الأصوات.
في هذا الجو المشوّش، وضمن هذه الأصوات المتداخلة، قطع رئيس المجلس حديث النائب المُستفسر بصراخٍ، هو أقرب إلى ما يصدر عن أصحاب مقاهي الأحياء الشعبية عند المناداة على النادل. وقد حمل هذا الصراخ كل مؤشرات الغضب والثورة، طالباً من النائب الصمت والتوقف عن التطرّق إلى هذا الموضوع، بخصوص ازدواج الأجور. وعلى الرغم من أنه ليس من وظيفة رئيس المجلس أو الجلسة أن يُجيب، بل عليه أن يُحيل إلى المسؤول المعني للإجابة، إلا أن رئيس المجلس وجد أن من الضروري عدم الاكتفاء بالتطرّق إلى قرارٍ للمحكمة الدستورية في هذا الخصوص، وشعر بأن من المحتّم عليه أن يُضيف ما يلزم حتى "يُبرّئ" نفسه من تهمة "السماح" للتعرّض إلى خطوطٍ حمر، تحت قبة برلمان الشعب، فبدا وكأنه يتهم النائب، المسكين دائماً، بالخيانة العظمى، لأنه يتعرّض إلى مسألةٍ إداريةٍ تخصّ "حماة الوطن".
"انتهى الكلام"، هكذا خوطب النائب، وأضاف رئيسه بصوت جهوري، ارتجفت له ضفاف
في مرحلة أخيرة، حاول النائب الثاني، الذي تم منحه الكلام، أن يدلي بما لديه، إلا أن الرئيس قاطعه، للمرة الثالثة، صارخاً بالعنفوان نفسه، إنه لن يقبل مثل هذا الكلام في قاعة المجلس الذي ينحني (بعد أن وقفوا) كل أعضائه إجلالاً للقوات المسلحة. لربما شعر "الريّس" أن في تكرار العبارة الأصمعية يمكن لمحضر الجلسة الذي سيُعرض على الجهات المختصة أن يكون أكثر إرضاءً وإشباعاً. وتابع مهدّداً، بوضوح، إن الرسالة يجب أن تكون قد وصلت، ليس للعضو المكلوم فحسب، بل إلى كل الأعضاء الذين يحاولون أو سيحاولون الفصل بين الشعب والجيش في مصر (...).
تعتبر مسألة الشفافية المالية ألف باء عملية إصلاح القطاع الأمني والقوات المسلحة في أي بقعة في العالم. وقد أعدّت منظمة الشفافية العالمية ملفاً ضخماً في هذا التخصّص للإفادة. يبدو أن النائب "الجريء" قد وقع عليه، فخُيّل له أن له دوراً تشريعياً ما في هذه المعمعة، وأن طرح سؤاله البريء حتماً، وغير المشوب بأية رغبةٍ تآمريةٍ على أمن الوطن وسلامته، لن يُقيم السيد الرئيس ونوابه الأجلاء عن مقاعدهم الوثيرة.
قيام النواب والنائبات، مثل طلاب المدارس في حضور السيد الناظر، للتصفيق على ما ورد في كلام "الريّس"، دليل جديد على تشوّه المشهد العام، وعلى إعادة إنتاج الاستبداد في أسوأ أشكاله، عبر "المتمجّدين" الذي قال عنهم عبد الرحمن الكواكبي، منذ نيف ومائة عام، إنهم "أعداءٌ للعدل أنصارٌ للجور".