المبادرات العلمية: معرفةٌ بسيطةٌ كالماء

07 مايو 2016
(ناسا)
+ الخط -

تُسارع الجهات الرسميّة المعنية في دعم وتطوير البحث العلمي في الوطن العربي، لإعلان موازناتها السنوية في لحظة استفاقة نادرة من سباتها، وبينما يتساءل الشارع عن غياب دور ملحوظ في دعم وتطوير البحوث العلمية؛ برز، منذ مدة ليست بقصيرة، عدد من المبادرات العلمية التطوعيّة التي اتخذت من الفضاء الإلكتروني وسيلة لإيصال المحتوى العلمي للشباب، ووسمت شعارات مثل "ترجمة العلم" و"محاربة العلم الزائف" غلافاً لصفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي.

أكثر من عشر مبادراتٍ علميّة عربيّة يتابعها عدد كبير من الشباب العرب، تقدّمُ ترجماتٍ لمقالاتٍ وتقارير علميّة مصوّرة، إضافةً إلى مواد أصليّة يجتهد فريق من المتطوعين في إنجازها استناداً إلى ما يمتلك من خبرات ومصادر ومراجع.

بعض هذه المبادرات سعت بشكلٍ لافت إلى التنسيق في ما بينها ومشاركة مقالاتها؛ ما ساهم في الآونة الأخيرة بحدوثِ نمو كبير في أعداد المتابعين والمنتسبين - على حد سواء - لهذه الصفحات.

مثلاً، جذبت مبادرة كـ "الباحثون السوريون" أكثر من مليون ونصف المليون متابع خلال ثلاث سنوات، ويُعيد الوليد كردية، عضو مجلس الإدارة في المبادرة، نشأة هذا النوع من المجموعات إلى مرحلة انطلاق الانتفاضات العربية.

يقول، في حديثٍ إلى "جيل العربي الجديد": "انطلقت معظم المبادرات العلمية العربية عن طريق مجموعة من الشباب العرب كاستكمال للمشروع الثوري الذي وُلِد قبل خمس سنوات. وكان لتحول مواقع التواصل الاجتماعي إلى منصة اجتماعية شبابية حينها؛ دورٌ في التفكير باستخدامها بطريقة علمية أيضاً".

يعاني المحتوى العربي على الإنترنت من افتقار إلى الأبحاث والتقارير العلمية الأصلية، فمعظم ما يُنشر تنقصه الدقّة وتغيب عنه المصادر، وغالبا ما يكون وليد عملية نسخٍ بين أكثر من موقع إلكتروني، مع استبدال اسم الكاتب أو تغييبه.

في بلد مثل الأردن، تشير إحصاءات موقع "Internet World Stats" أن 5,7 ملايين أردني استخدم الإنترنت عام 2015، منهم 4,1 ملايين مستخدم لموقع فيسبوك، ما يحيلنا إلى الدور الهام الذي تلعبه مواقع التواصل الاجتماعي في استقطاب الشباب، ونزعة المبادرات العلمية للحاق بهذا الركب عوضًا عن انتظارها للنُخب في مراكز الندوات والمؤتمرات.

من هنا، حظيت هذه المبادرات بدعم واستحسان الكثير من الشباب، ويمكن استشعار ذلك من خلال مدى التجاوب والتفاعل الحادث في الفضاء الإلكتروني، وحجم ونوع التعليقات والمشاركات التي تصاحب كل منشور جديد، يُدرج من قبل الصفحات العلميّة.

يشير أنس ضباعين، مؤسسة مبادرة "درب المعرفة الأردني" إلى ذلك: "نتعمّد أحياناً عدم ذكر المصادر؛ فينهالُ علينا المتابعون بالسؤال، بل غالبا ما يأتون بمصادر تخالف ما طرحناه أو تصف الأمر من منظور جديد، وهذا أمر إيجابي جدا ودليل على أن هذه المبادرات تحفّز الشباب".

غياب الدّعم الرسمي؛ ولّد عند الشباب قدراً من الطاقة والرغبة لإحداث التغيير؛ ما أدّى إلى تأسيس هذه المبادرات التطوعيّة، والانطلاق منها لخلق محتوى عربي أفضل، بعيداً عن الموروث الديني والثقافي للمجتمعات.

يعود كردية موضّحاً: "غاب الدعم الرسمي في بلداننا بالتزامن مع اهتمام الشباب بالمعرفة، فكان التطوّع السبيل الوحيد أمامنا للمساعدة في نشر المعرفة والعلم". وحول توحيد هذه المبادرات جهود من فرّقتهم السياسة، يضيف: "وضعنا في المبادرة عنواناً عريضاً لحماية بيتنا الداخلي - لا نقاش في الدين والسياسة - فأصبحت بيئة العمل ملائمة للبحث والإبداع بعيداً عن أي تجاذبات".

يجد المتلقّي العربي من خلال هذه المبادرات طريقة مُثلى للحصول على المعرفة من دون الحاجة لحضور ندوات وورشات عمل ومحاضرات، في وقتٍ استحوذت فيه التكنولوجيا والهواتف الذكية وتطبيقات التواصل الاجتماعي على الحصّة الأكبر من وقت الشباب.

تقول رزان حيدر، المُحاضِرة في كليّة الهندسة في جامعة "عمّان الأهليّة": "متابعتي لهذه الصفحات ترتبط بتوافرها في أي وقت وفي أي مكان؛ نظراً إلى صعوبة حضوري للندوات، التي في معظمها لا يتم توثيقها أو أرشفتها بحيث تكون في متناول القارئ لاحقا".

لكن الهاجس الأكبر يبقى غياب وجود رقابة ومتابعة لمضمون هذه الصفحات، فيما ينضم يومياً الكثير من الشباب للحصول على المعلومة من خلالها؛ إذ لا يوجد ما يؤكّد صحّة ما يُنشر، ويبقى على المتابع أن يتوخّى الدقّة ويواصل البحث في سبيل التأكد مما يصله.

تضيف حيدر: "ليس كل ما يُقرأ يؤطّر ضمن الثقة المطلقة؛ والسبب في ذلك أن بعض الصفحات تُجيّر المواضيع حسب توجّهات مشرفيها؛ ما يتسبب في تضليل الفكرة أمام القارئ، والذي يترتب عليه البحث عن مصادر تطرح نفس الموضوع بوجهات عدة ليستقر على ما هو أكثر صحّة".

ربما ينحصر دور المبادرات العلمية حالياً في ترجمة المقالات ومقاطع الفيديو، وإعادة نشرها بطريقة ملفتة لاستقطاب أكبر عدد من الشباب، وهذا ما نجحت به حتى الآن، إلّا أن الآمال المعقودة على هذه المبادرات تتعدّى ذلك، خصوصاً في ظل اليأس من حصول معجزة رسميّة تؤسس لمجتمع علمي قادر على النهوض ونفض غبار التاريخ عنه، ومنافسة المجتمعات المتقدّمة والكسب من خبراتها.

يتحدث نائب رئيس مجلس إدارة مبادرة "ناسا بالعربي"، طارق نصر إلى "جيل العربي الجديد" حول النشاطات التي تنفذها مبادرتهم على أرض الواقع، وأهدافها المنظورة: "طموحاتنا كبيرة، لكن اختياراتنا واقعية جدًا؛ فالعلم هو القالب الكبير الذي يضم عدّة أهداف، مثل توفير مراجع موثوقة للعلوم التي نتناولها للطلاب في المراحل العلمية المتقدّمة، وزيادة المحتوى الإلكتروني للغة العربية على شبكة الإنترنت، إضافة إلى تشجيع الشباب على البحث ليغدو مستقبلًا أسلوب تفكير وطريقة للحياة".

وإن كانت تعتمد هذه المبادرات غالبًا على مراجع أجنبيّة، فقد تُجانب الصّواب في إعادة صياغتها أثناء الترجمة؛ فيكون المحتوى الناتج أقل دقّة مما كان يجب أن يكون عليه؛ وهذا يقودنا إلى ضرورة حدوث صحوة على المستوى الرسمي لاستيعاب هذه المبادرات وتمويلها ودعمها، بحيث تتمكّن من العمل بإشراف فريق من المختصّين، وتخضع إلى معايير العلم والبحث العلمي.

يرى كردية أن التّرجمة ما هي إلا الخطوة الأولى في مشوار تحقيق نهضة علمية. يقول: "بوسع المبادرات العلمية العربية تقديم المعرفة؛ وهو ما تقوم به حالياً من خلال الترجمة، لكن الترجمة ما هي إلا وسيلة وليست هدف".

ويتفق معه نصر؛ إذ يقول: "إن الترجمة هي واحدة من الطرق التي نستخدمها لتحقيق تلك الأهداف؛ لأنها المتوفرة حالياً والأكثر ضماناً لدقة المعلومات ومصداقيتها، ولكنّنا ندعم أيضاً الإعداد الفردي والمواد الأصليّة، والشروحات الموثوقة وغيرها من برامج؛ إذ نملك العديد من الخبرات وأصحاب الشهادات العلمية الذين يستطيعون فعل أكثر من ذلك، فالمسألة تتلخّص بالمزيد من الوقت فقط".

المساهمون