المؤلف المناهض .. دربُ المعرفة المستقل

25 اغسطس 2020

وائل حلاق وإدوارد سعيد

+ الخط -

"إن المؤلف المعارض (في هامش الحداثة) لا يُسائل الأركان الأساسية للنظام أو البنى المعرفية (للحداثة المادية) التي تحدد النظرة الكونية، فتحل مشكلات النطاق في ضوئها". وائل حلاق 

يضع وائل حلاق إدوارد سعيد في خانة المؤلف المعارض، ورينيه غينون في خانة المؤلف الهدّام، والهدّام هنا يأتي بالمعنى الإيجابي الذي يعتمد استقلالية المؤلف الفلسفي، عن النطاق المهيمن. وبالتالي يتحول نقده إلى بنية تأسيسية تخرج من حالة العمى التي تسيطر على الباحث الغربي، أو المريد الشرقي للأكاديمية الغربية، فتفتح عنده قراءات كونية جديدة، أصح وأقرب دقة إلى فهم رحلة الكون، ومن ثم تنظيم هيكلة البناء الفلسفي الحديث عليها.
ونُلاحظ هنا نصا لإدوارد سعيد ناقشه حلاق: قد تكون أهم المهام على الإطلاق، هي إجراء دراسات في البدائل الراهنة للاستشراق، فيمكن للمرء دراسة الثقافات والشعوب من منظور متحرّر من الكبت. فهو يطوف حول هذا المعنى، غير أن تتبع حلاق النقدي له يعيده إلى جذور الهيمنة الفكرية الأولى التي لم يستطع سعيد الاستقلال عنها، بسبب ارتهانه العميق للحداثة المادية، ويستطرد حلاق كثيراً عند هذا الموضع، في التدليل على صحة موقفه. حتى أن ذائقة سعيد مع نيويورك وأماسيها الموسيقية تُدرج لديه ضمن هذه الشواهد، وهو ما يُثير شكوكاً في هذا النقد، من حيث فهم التمازج الإنساني لا الإنسانوي، الذي يستشعره الأديب أو المفكر ويستسيغه، في دروب الحياة المختلفة، وطبائع الأمكنة ومعالمها السياحية، والتي قد يجدها أقصى مناهض للجذور التاريخية والواقع السياسي للغرب الكولونيالي، من دون أن يتخلى عن مبادئه النقدية، ففرز التداخل الإنساني في الطبيعة والفنون، لا يُمكن أن يُتخَذ معياراً بحد ذاته. غير أن الإشارة هنا إلى مدلول مختلف، انطبعت به بعض مسارات الفلسفة الغربية في ما يسمى الشرق الجمالي، وكيف نفهم هنا الحفرة التي يقع فيها بعض باحثي الشرق، ثم حركة الاستيراد الثقافي وفرضها على بيئتهم، فينعكس هذا المحور على إيمانهم الذاتي بالشرق، والذي يعتمد معياراً فنياً شكلياً لتوصيف الشرق، وجعله جوهرا لدى هذه الأمم الدُنيا، في حين أن هذا الاهتمام الذي ورد في مسارات الفلسفة الحديثة، هو مجرّد مزهرية أنتجها "العبد الشرقي الأدنى".

مركز الفكرة لدى حلّاق وكاراتاني مهم جداً أن يعاد إسقاطها على الشرق المسلم، ورحلته المعرفية

هذا المعنى جسدته بعض نصوص الفيلسوف الياباني كوجين كاراتاني وأفكاره، ففي رأيه أن تناول الاستشراق لغير الغربي، أي الآخر الأدنى، نوع من العبادة الجمالية التي يُنفّس عبرها البحث الفلسفي الغربي مساحته الإنسانية المشتركة، فهو بذاته محتاجٌ إليها، ليبقى الشرق حديقة طبيعية لعالمه الخاص، لا تتعدّى الشكل الجمالي الفني، ويُبالغ كاراتاني بالوصف، إلى درجة أن ذلك يمكن أن يكون "كمرحاض جمالي في معرض فني"، وهو وصف صادمٌ من الصعب أن يتم تعميمه، حيث أن بعض الاهتمامات الجمالية والفنون والآداب، لدى رحلة البحث الغربي، عكست أيضاً نوعاً من الاحترام ومحاولة الفهم، للقاعدة المعرفية الشرقية التي أنتجت هذا الفن، غير أن مركز الفكرة لدى حلّاق وكاراتاني مهم جداً أن يعاد إسقاطها على الشرق المسلم، ورحلته المعرفية، فنُلاحظ هنا كيف تحولت حركة المتاحف في بعض الدول العربية والإسلامية إلى التجاوب مع فكرة أمم الظل الأدنى، وأضحت السجادة والمسكوكات والأواني والفخاريات مركزاً لتعكس هذه الدولة أو تلك هويتها الحضارية. وهذا لا يعني التقليل من قيمة الفنون والآداب حضارياً، غير أن إخراج الهوية الحضارية للأمم، لتكون انعكاساً لمتعة الآخر الغربي، أخلّ بالإيمان الذاتي بالرجوع إلى تاريخ المعرفة، والثقة بالنفس الشرقية، ثم فهم أصول فكرتها الفلسفية، ولماذا اعتنت بالعلوم والمنطق والفنون، وكيف عبرت إلى العالم الجديد بها، في أول رحلتها. ثم يُناقش أين قطع التخلف أو الاستبداد هذه الرحلة التي لعب المشروع الكولونيالي للحداثة الغربية، منذ أوائل الاستشراق، والمهمة الأكاديمية، دوراً ليس بالسهل فيها، فحاصرها ثم أعاد تقديمها للعالم، عبر لوحة فن هامشية للشرق يحدّد معالمه الغرب الأعلى، وهذه فكرة ظلت في قلب النطاق المركزي، ولا يمكن هنا أيضاً أن يُغفل دور كتاب "الاستشراق" في تكثيف هذا المعنى، وبعمق ولغة مفصلة أكثر من كوجين كاراتاني.

إخراج الهوية الحضارية للأمم، لتكون انعكاساً لمتعة الآخر الغربي، أخلّ بالإيمان الذاتي بالرجوع إلى تاريخ المعرفة، والثقة بالنفس الشرقية، ثم فهم أصول فكرتها الفلسفية

يُلاحظ هنا أن مجمل هذه المسارات للمؤلف الهدّام، أو المؤلف الخطابي أو المؤلف المعارض أو المؤلف الطيّع، كلها لا تُغطّي ذلك الفراغ الكبير، الذي نعانيه في الشرق، ويعانيه العالم بسبب تخلي الشرق عن رسالته الفلسفية الفارقة. وأتحفظ على وصف غينون بالمؤلف الهدّام، حتى ولو كان ضمن المعنى الإيجابي، بمعنى التحرّر من حصار السور الغربي الشرس والمضلل، وشجاعة غينون بدعوته أن تتحرّك الحضارة الغربية إلى الإصلاح الجدي، أو أن تُسقط، ولكن لو كان هذا هو المعنى الذي وصل إليه غينون، فليس بالضرورة أن يُلتزم به، في التحرير الجديد للفلسفة.

المؤلف الهدّام، أو المؤلف الخطابي، أو المؤلف المعارض، أو المؤلف الطيّع، كلها لا تُغطّي ذلك الفراغ الكبير، الذي نعانيه في الشرق

إنك حين تتأمل وتراجع حقيبة الأسماء الكبرى، من فلاسفة الغرب المتقدمين والمتأخرين، من شوبنهاور وفردريك إنجلز وكانط وماركس وسارتر، وصولاً إلى فوكو نفسه الذي أحدث ضجة كبرى، وطرح معياراً يشكّك في دور القوة المهيمنة على العقل، وأينما صُنّفت فلسفياً، فستدرك أن هناك مؤلفاً غائباً وسط هذه الحشود. وهي حشود يعاد عرض كتبها، وتدويرها وترجمتها، ويُقيّد الباحث الجديد بتتبعها، ثم الدوران في حلقتها، حتى بعضُ من يظن أنه يعارضها من منطق إسلامي، فستدرك أن هذا التدوير المقلّد لن يعطي فارقا لصالح المعرفة الإسلامية ولا الرؤية الكونية للعالم، التي قد تملك حلاً يعالج سقوط الكوكب الداخلي.
ميلاد المؤلف المناهض هو ضرورة هذا الزمن، وهو مؤلف لا يُناهض لأجل المناهضة، وإنما لأن الفكرة الجوهرية لديه العودة إلى المناظير الكبرى لحركة العالم والوجود، وفهم خلل المسارات التي سبقته، ثم تحرير رؤيته الكونية التي تقتضي منه بعدها أن يكون المؤلف الخلّاق، لا الهدّام، لصناعة حبل الإنقاذ.

18C96C38-2AC9-45FF-A3F4-89E11ED2B781
18C96C38-2AC9-45FF-A3F4-89E11ED2B781
مهنا الحبيل
مهنا الحبيل