لا يزال ملف إصلاح الأمن في تونس أحد أكثر الملفات تعقيداً، إذ يرى الكثيرون أن السنوات الأربع التي مرت بها تونس بعد ثورتها، لم تكن كافية لإصلاح المنظومة الأمنية. آخر محاولات إصلاح هذه المنظومة، تمثّلت بالتغييرات التي شهدتها وزارة الداخلية التونسية مطلع هذا الأسبوع والتي وصفها مراقبون بـ"المهمة"، إذ قرر وزير الداخلية محمد ناجم الغرسلي إلغاء مهمة مدير عام الأمن الوطني وإبدالها بمديرين للإشراف على الإدارات العامة، كما شهد ديوان وزير الداخلية تغييرات عديدة.
يرجّح مراقبون أن منصب المدير العام للأمن الوطني والذي استُحدث منذ حوالي 20 سنة، بات يتعارض مع منصب وزير الدولة المكلف بالأمن، لتقاسمهما تقريباً الصلاحيات والمهام نفسها، بينما أوكلت مهمة الإشراف على الجماعات المحلية والعامة منذ فترة إلى وزير دولة مكلف بهذا الملف، لكن الخبير في إصلاح المنظومة الأمنية هيكل بن محفوظ يحذر من أن "التغييرات المتواصلة على مستوى قيادات وزارة الداخلية تؤثر فيها سلباً".
تواجه الحكومة التونسية الجديدة تحديات أمنية جسيمة مع توتر الأوضاع على الشريط الحدودي بين تونس وجارتيها الجزائر وليبيا، بسبب انتشار الجماعات المتشددة مع الأولى، وتواصل الصراع المسلّح بالنسبة للثانية.
يتساءل متابعون للشأن الأمني والسياسي في تونس حول مدى جدية الإصلاح الذي تقول الحكومات التونسية إنها انطلقت فيه. كما لم تعرف تونس، التي تتميز حالياً بنموذجها التوافقيّ لحسم الخلافات بين الفرقاء السياسيين، توافقاً بشأن كيفية معالجة تركة النظام السابق الأمنية الثقيلة، على الرغم من تعاقب الوزراء على هذه الحقيبة.
وأشرف على وزارة الداخلية التونسية منذ الإطاحة بالرئيس السابق زين العابدين بن علي في 14 يناير/كانون الثاني 2011، أربع شخصيات هم فرحات الراجحي، والحبيب الصيد (رئيس الحكومة الحالي)، والأمين العام لحركة "النهضة" علي العريض، ولطفي بن جدو، قبل تعيين محمد ناجم الغرسلي على رأس الوزارة في فبراير/شباط 2015.
وقد بادر وزير الداخلية الأسبق فرحات الراجحي عند توليه مهامه في فبراير/شباط 2011، بإقالة 42 مسؤولاً بارزاً في الوزارة وحلّ جهاز الشرطة السياسية، لكنه أقيل من منصبه في عهد رئاسة الباجي قائد السبسي للحكومة.
أما الصيد، فأصدر قبل انتخابات المجلس التأسيسي التونسي في أكتوبر/تشرين الأول 2011 بصفته وزيراً للداخلية حينها، "كتاباً أبيض" بشأن إصلاح جهاز الأمن تضمّن نقاطاً عملية لتحويل المؤسسة الأمنية من أداة قمعية إلى مؤسسة تخدم المواطنين.
أما العريض، فعرفت علاقته كوزير داخلية بالأجهزة الأمنية فترات مختلفة تراوحت بين الصدام و"التطبيع"، إذ واجه العريض موجة من الانتقادات في العام 2012 بسبب إقدامه على عزل مدير قوات التدخل المتهم بإطلاق النار على متظاهرين أثناء الثورة.
كما واجهت حكومة "الترويكا" التي حكمت تونس بعد انتخابات المجلس التأسيسي، انتقادات شديدة حتى في صفوف أنصار الأحزاب المكوّنة لها بسبب "براغماتيتها المبالغ فيها"، حسب وصف كثيرين، في تعاملها مع ملف الإصلاح الأمني.
إصلاح بطيء
يرى أستاذ القانون في الجامعة التونسية والمختص في إصلاح المنظومة الأمنية هيكل بن محفوظ، في بحث عن "تطورات القطاع الأمني في تونس بعد الثورة"، نشره مركز كارنيغي للشرق الأوسط، أن "قدرة الدولة على معالجة القضايا الأمنية، وخصوصاً على إصلاح المنظومة الأمنية، ضعيفة وغير راسخة"، مشيراً إلى أن "التحديات جمة والإرادة السياسية لم تتبلور بعد والرهانات كبيرة، ومحاولات الإصلاح أو حتى التغيير، إن وجدت لم ترتقِ بعد إلى مستوى إرساء منظومة أمنية تقطع مع الماضي وترسي أمناً في خدمة المواطن في ظل نظام ديمقراطي".
من جهتها، تنفي أستاذة القانون العام والمتخصصة في الحريات الأساسية فرح حشاد، وجود "عمليات إصلاح حقيقية". وترى أن "المحاولات الأولى للإصلاح مباشرة بعد الثورة لم تغيّر الكثير واعتبرها البعض فوضوية". وتضيف حشاد في كتابها الذي صدر أخيراً بعنوان "الثورة التونسية والتحديات الأمنية" بمشاركة أستاذ القانون وحيد الفرشيشي، أن "الإصلاح لا يجب أن يكون مُسقطاً من خلال الاعتماد على التجارب الأجنبية بل لا بد من مراعاة السياق التونسي بجوانبه التاريخية والقانونية والسياسية".
اقرأ أيضاً: أزمة "نداء تونس" تتفاعل: انتخابات المكتب السياسي مؤجلة
تغييرات في مواقع حسّاسة
يصف كاتب عام النقابة العامة للحرس الوطني سامي القناوي في حديث لـ"العربي الجديد"، بعض القوانين الموجودة بـ"الجائرة في حق الأمنيين"، مثل القانون الأساسي لقوات الأمن الداخلي الذي "يحدُّ من حريات المواطن ورجل الأمن"، مشدداً على ضرورة تغييره.
أما عضو لجنة الأمن والدفاع البرلمانية النائب محسن السوداني، فيرى في حديث لـ"العربي الجديد"، أن المؤسسة الأمنية "تحتاج لإصلاح كبير جداً ينطلق أساساً من إعادة النظر في المنظومة القانونية لسلك الأمن".
ولا ينكر السوداني حاجة رجال الأمن لتحسين أوضاعهم المادية والفنية واللوجستية. وقد خصصت ميزانية الدولة التونسية خلال سنة 2015 النصيب الأكبر من المخصصات في القطاع العام للمؤسستين الأمنية والعسكرية.
ويقول السوداني إنه "لا ينبغي أن تتحمّل المؤسسة الأمنية وحدها مسؤولية ملف الإرهاب لأن هذا الملف يتطلب معالجة شاملة تتداخل فيها عناصر ثقافية اجتماعية توعوية وتربوية"، معتبراً أنه "من الضروري أن تتطور العلاقة بين المؤسسة الأمنية والمواطنين، ومقومات ذلك متوفرة لأن المجتمع التونسي محب للاستقرار والسلم".
ومع تجدّد المطالب بمزيد من الإمكانات للقوات الأمنية وبتشريعات قانونية وموارد مالية، يتجدد قلق الحقوقيين مما يعتبرونه "تغييباً" للرقابة والمساءلة والشفافية لضمان حقوق المواطنين عند تناول موضوع إصلاح المنظومة الأمنية.
وكان الغرسلي قد أكد قبل أيام حرصه على تطوير العمل الإرشادي وتفعيل منظومة المخبرين. وقال وزير الداخلية في تصريح لوسائل الإعلام، إن قانون مكافحة الإرهاب الجديد، الذي من المنتظر أن يصادق عليه البرلمان قريباً، سيوفر الحماية لكل من يتعاون في مجال تقديم المعلومة الأمنية، مما أثار مخاوف جزء من الشارع التونسي بسبب إمكانية مس هذا القرار لخصوصيات المواطن وحقوقه.
فوضى النقابات الأمنية
خلافاً لدول عربية وأجنبية كثيرة، يسمح القانون التونسي للأمنيين بتأسيس نقابات أمنية. وقد سبق للسبسي أن أصدر مرسوماً بتاريخ 25 مايو/أيار 2011 يسمح بإنشاء نقابات أمنية. وتشكّلت منذ ذلك الوقت أكثر من 5 هيئات نقابية أمنية في مختلف الفروع الأمنية التونسية.
ولا يعتبر النقابي الأمني سامي القناوي، الذي ينتمي إلى سلك قوات الشرطة، التعدد النقابيّ إشكالاً، بل هو أمر معمول به في العديد من الدول. ويفسّر القناوي في حديث لـ"العربي الجديد"، ذلك بالقول إن "وضع النقابات الأمنية شبيه بوضع البلاد المتقلب"، لكنه يعترف بأن بعض هذه النقابات "تأثرت بالتجاذبات السياسية". وباتت التصريحات الإعلامية المتكررة والمتتالية لبعض أعضاء النقابات الأمنية أمراً "مزعجاً" لكثيرين.
في هذا السياق، يرى السوداني أن "بعض النقابات أخطأت وحادت عن دورها الأساسي"، ويعيد ذلك إلى كون النقابات الأمنية حديثة التجربة بالعمل النقابي وتنشط ضمن مؤسسة تتأثر بالتجاذبات السياسية في ظل فترة ضعفت فيها الدولة مما يمس من "هيبة الدولة"، وفق قوله.
وكانت نقابات أمنية قد اتهمت أخيراً المدير العام لقوات الشرطة التونسية بـ "دعم الإرهابيين والتساهل في تتبعهم"، في تصريحات إعلامية أحدثت ضجة في الساحة السياسية والأمنية التونسية.
ويقرّ القناوي في حديثه لـ "العربي الجديد" بأن تسريب المعلومات الأمنية من بعض النقابيين الأمنيين "خطأ أضر بالعمل النقابي والمؤسسة الأمنية"، مطالباً زملاءه بـ "التركيز على مطالب المنخرطين في النقابات الأمنية المادية واللوجستية، واللجوء إلى القضاء عوض الإعلام في حال وجود تقصير من قبل المسؤولين قد يمس بالأمن القوميّ".
رقابة جهاز الاستخبارات
يُعتبر ملف إصلاح وإعادة تأهيل جهاز الاستخبارات التابع لوزارة الداخلية التونسية أحد أبرز أولويات الوزير الجديد، وفق ما أكدته مصادر مطلعة من الداخلية التونسية لـ "العربي الجديد".
وكان كتاب "الثورة التونسية والتحديات الأمنية" الذي صدر أخيراً، قد خصص جزأه الثالث لموضوع رقابة جهاز الاستخبارات في تونس. وطالب الكتاب الذي صدر عن منظمة "مخبر الديمقراطية" بوضع إطار تشريعي يوضح التنظيم الهيكلي لأجهزة الاستخبارات في تونس، وتحديد صلاحياتها في إطار قانوني دقيق، من أجل حماية الدولة والمواطنين والعاملين في أجهزة الاستخبارات أيضاً من دون المساس بأمن الدولة.
كما اقترح المؤلف وضع إجراءات تضمن حياد المسؤولين بأجهزة الاستخبارات، وذلك من خلال "التعيين التشاركي" من قِبل هيكل خارجي عن السلطة التنفيذية، مع الإبقاء على سلطة الإقالة خاضعة لتقدير السلطة التنفيذية. وسيمنح قانون مكافحة الإرهاب الجديد أجهزة الاستخبارات التونسية صلاحيات واسعة، في إطار الوقاية من "الأخطار الإرهابية".
وتنكب السلطات التونسية منذ أشهر على دراسة مقترحات لتوحيد أجهزة الاستعلام والإرشاد التابعة لوزارتي الداخلية والدفاع، أو إيجاد طريقة أنجع للتنسيق بينها، خصوصاً مع تكرر مطالبة السلطات الجزائرية، التي تتعاون مع تونس في إطار مكافحة الإرهاب، السلطات في تونس بتوحيد قنوات الاتصال والمعلومة، حسب ما أكدته مصادر أمنية رفيعة المستوى لـ"العربي الجديد".