اللغة العربية.. حكمة الأولين

31 مايو 2019
+ الخط -
ليس ثراء العرب نابعاً مما تختزنه رمال صحاريهم وبواطن تربتهم من ثروات شكلت أساسا لتقدم الغرب ومدنيته، إذ أنار نفطهم كبريات عواصم الغرب من واشنطن ولندن إلى باريس، وحرّك آلات معاملهم ومصانعهم، فتضاعفت منتوجاتهم وعادت عليهم بالأرباح الهائلة التي كانت سرّ رفاههم ومدنيتهم الحاضرة.
العرب يمتلكون، إلى جانب النفط والغاز والمعادن، ثروة فكرية هائلة، لا تقلُ أهمية عما يمتلكونه من قدراتٍ مادية، ونعني امتلاكهم اللغة العربية الثرّة التي تشكل وعاء للأفكار والمعارف والعلوم، فقد اختارها الله لتكون لغة آخر رسالات السماء إلى الأرض، إذ نزل بها القرآن العظيم الداعي إلى الحق والعدل والحب والعلم والسلام: ﴿إنّا أنزلناه قرانا عربياً أفلا يعقلون﴾، ولو وجدت لغة أكثر منها بلاغة وبيانا لنزل بها القرآن.
والمطلع على تاريخ الحضارات العالمية عامة، والعربية خاصة، لوجد أن اللغة العربية كانت بوتقةً انصهرت فيها لغات عدة، يونانية قديمة ورومانية وهندية وفارسية، وشكلت منها جميعا حضارة بلغت سور الصين العظيم شرقاً وجنوب جبال الألب غرباً.
ومع هذا نجد الكثيرين من أصحاب الثقافات المسطحة يتهمون العربية بالعجز وعدم القدرة على مواكبة علوم العصر. ولهؤلاء نقول: كيف استطاعت هذه اللغة أن تهضم فلسفة الإغريق وحكمة الهنود وعلوم الإدارة الفارسية ولم تفقد الكثير من إبداعات الفكر الإغريقي ولم يبق منها إلا ترجماتها العربية؟
وهذا بدوره دفع أحد المستشرقين الإنكليز للقول: "قلَّ منا نحن الغربيين من يقدر العربية حق قدرها. لقد كان للعربية ماض مجيد، وفي تقديري سيكون لها مستقبل باهر".
ويتقول عليها آخرون، فيقول: "إنها لغة فقيرة لا تصلح لأن تكون أداة بحث في الأمور المعنوية والفكرية"، وكيف تكون فقيرة وقد تجاوز عدد مفرداتها المليون، فهل في كل لغات المعمورة لغة تستطيع أن تدعي أنها تملك نصف ما تمتلكه العربية من ألفاظ؟. وقد قال المستشرق الألماني نولدكه "يندر أن نجد لغة غير العربية تصلح لأن تكون وسيلة للتعبير عن الفلسفة القديمة وحكمة الأولين". ومن أهم السمات التي تميز هذه اللغة جمالها المفرط ومنطقها المتناسق، وهذا الأمر دفع المفكرة الألمانية زيغريد هونكه، إلى القول: "كيف يستطيع الإنسان أن يقاوم هذه اللغة ومنطقها السليم وسحرها الفريد، فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صرعى سحر تلك اللغة".
وهذا ما وصلت إليه هذه المستشرقة المنصفة، بعدما اطلعت على الإنتاج الفكري العظيم الذي خلفه علماء مبدعون من غير العرب وباللغة العربية، من أمثال ابن سينا والرازي والفارابي، فضلا عما أبدعته ريشة العلماء العرب من أمثال ابن رشد الذي تدين له الحضارة الغربية بما حققته من تقدّم كثير، وابن خلدون الذي شكلت مقدمته الشهيرة فتحا عظيما في علم الاجتماع، إضافة إلى قدرتها غير المحدودة على تصوير أدق التفاصيل في أي موضوع، حيث تعجز جميع اللغات عن التعبير عنها، إضافة إلى جمال حروفها التي كانت منبعا لإلهام فنانين شكلوا منها لوحات خالدة على مر السنين وتوالي القرون، وجدران قصر الحمراء في إسبانيا من تلك اللوحات الخالدة.
إلا أن العربية اليوم تتعرّض لهجمات كثيرة تهدف إلى اجتثاث جذورها وتحويلها إلى لغة كهنوتية، كاللغة اللاتينية التي وقعت أسيرة الكنائس والأديرة، والمستغرب أن كثيرين ممن يصوّبون إليها سهام البغضاء هم من أبنائها ممن يدعون إلى الاستغناء عنها باللغة العامية في الكتابة والإبداع، ومن قائل إنها لا تواكب معارف العصر العلمية والنقدية، فيجب استبدالها بلغة غيرها كالإنكليزية والفرنسية. ومع ضراوة هذه الهجمات عليها، بقيت صامدة لا تتزعزع، فهي الرباط المقدس الذي يجمع العرب كأمة واحدة ممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي. ومع هذا، لا ننكر أن العربية قد أصابها غير قليل من الضعف لا في جوهرها بل من ضعف العرب الناطقين بها.
وحين يرجع العرب أقوياء، يعود إلى اللغة مجدها وألقها، فهل هذا الأمر قريب؟!
1998067C-94BE-48BF-9CDD-353535E7731D
1998067C-94BE-48BF-9CDD-353535E7731D
أحمد سلوم (سورية)
أحمد سلوم (سورية)