اللام الفاصلة بين عهدين

28 سبتمبر 2014
"وراء القضبان"، أدهم إسماعيل (1955)
+ الخط -

في السنوات التي سبقت الثورة السورية، والثورات والانتفاضات العربية كافة، امتلأت الصحافة السورية والعربية بكتابات تندّد بالأدب عامة، استناداً إلى عجزه وفقدانه للفاعلية الثورية أو الأخلاقية أو اعتماداً على خطاب يزعم بأن الأدب يخرج على القيم الدينية والأخلاقية للمجتمع.

وثمة من تحرك في الاتجاه ذاته انطلاقاً من التأثر بالثقافة الغربية التي كانت ترسل لنا آخر مبتكراتها المابعد حداثية القائلة بموت الأدب. وسوف يكون لدى ذلك الكاتب والصحافي الذي يسوّق هذه المقولات الوقت والمعطيات اللازمة لإثبات أن الأدب في طور الاضمحلال: كشوف دور النشر التي تؤكد أن أي دار عربية لا تنشر من الكتاب الواحد، أو العنوان الجديد، أكثر من ألف نسخة، وأن هذه النسخ تبقى أكثر من خمس سنوات قبل أن تجد طريقها إلى رفوف الكتب، أو في منازل القراء والمقتنين.

ثم إن الخارجين على المألوف، أي على واقع كساد الكتاب، من أصحاب الأسماء الكبيرة، ليسوا أحسن حالاً، ويمكن وضعهم في القائمة القائلة بكساد الأدب، ومن ثم موته، بناء على مقاربة ومقارنة إحصائية بين أرقام توزيع مؤلفاتهم، وأرقام توزيع مؤلفات نظرائهم في الأدب الغربي. وسوف يكون الشعر الذي بدأت دور النشر العربية تمتنع عن نشره، أو تمتنع عن تبني نشره، باستثناء مخطوطات بعض الشعراء المشهورين (كان الراحل محمود درويش يملك الحصة الأولى في نهم الناشر العربي لطباعة الشعر)، هو القرينة الدالة على صدق ذلك النعي الناقم الذي يدق الأجراس في الصحف والمجلات زاهداً بالأدب والرواية والقصة والشعر والمسرح، متذمّراً من وجود بعض الدونكيشوتات المدسوسين الذين يشوشون على نغمة الموت ويستمرون في الكتابة.

وقد صادف بالفعل أن الشعب يحجم عن القراءة، وأن السوق التي يحتج بها أصحاب التنبؤات تقرر في إحصاءاتها أن السلعة المسماة كتاباً لا تلقى الرواج، وأن بعض المكتبات الكبرى بدأت تفكر في إغلاق الأبواب (وقد أغلقت مكتبة ميسلون في دمشق دون أن تجد من يذرف دمعة واحدة).

وبفضل تلك الحملة الحاذقة بتنا نصادف من يسألنا: لماذا تكتب؟ ويا للحيرة في هذا الشأن!  فإذا لم يعد في الميدان سوى "حديدان"، أي نحن الذين نكتب ونقرأ لأنفسنا وبأنفسنا، فلماذا نكتب حقاً؟ ألا يجدر بنا أن نستأجر دكاناً لبيع قوارير العطر، أو محلاً لساندويش الهامبرغر، أو مرآباً لقيلولة السيارات؟ ومع ذلك فإنك سوف تذود عن نفسك، وعن كتابتك بكل الوسائل الفكرية المتاحة: ثمة من يقول إنه يكتب من أجل ألا يموت، وثمة من يقول إنه يرى أن الكتابة هي الوجدان والضمير الذي يجب ألا يموت، ومن يقول أشياء أخرى عن وظائف الكاتب والكتابة في المجتمع.

وفي الغالب، فإن الأجوبة سوف تكون دفاعية، تنم عن ذلك الشعور المسكين بالنبذ والعزلة، ويكاد بعض الكتاب يعتذرون من السائل الساخط القادم من صفحات مبطنة باليقين من صحة الاستنتاجات التي تقدمها استبيانات تثبت أن الشباب لا يقرأ، وأن البيوت تكاد تخلو من المكتبات، وأن انشغال الناس بأجهزة الهاتف يزيد بمئات المرّات عن انشغالهم بالرواية أو الشعر. وبدا كأن النبوءة على وشك أن تتحقق، أو أن القرار المحلّي بالتخلي عن هذه الآفة الضارة قد صار في طور التنفيذ السعيد.

ولكن الثورة فاجأت السؤال الذي كان يعتقد أنه صار يقيناً، وإذا بي أجد الصحافي الذي أرسل لي ذات يوم سؤالاً يقول: لماذا تكتب؟ وقد كلفني الكثير من الجهد والتفكير كي أجد له جواباً مقنعاً. يرسل لي هذه الأيام السؤال ذاته بعد أن حذف منه حرفاً واحداً حتى صار: ماذا تكتب؟ وقبل أن أجيب، رحت أتأمل في عبقرية اللغة العربية، التي أعانت ذلك الصحافي على تغيير الفحوى بحذف حرف من عبارة، بحيث تمنحه القدرة على ملء سؤاله بمعنى مضاد لما كان قد توخّى أن يحرج به الكاتب من قبل. لا بل أجد من بين الناس من لا يكف عن توجيه هذا السؤال إلي. ماذا تكتب لنا هذه الأيام؟

عبقرية اللغة أم عبقرية الشعب؟ لست في وارد إحراج اللغة، لا، ففيها ما يكفي من القدرة على التأقلم والتكيّف مع المتطلبات البشرية الساعية إلى أي يقين، ولنا أن نفكر كيف استجابت لفكرة موت الأدب، ولكني أميل إلى الظن بأن ثورة الشعب، في مسعاها نحو الحرية، إنما تعمل، دون قصد، دون سبق الإصرار، على تغيير القيم والمفاهيم التي اعتقد أصحابها أنها مطلقة أو شبه مطلقة.

لا أستطيع الادعاء أن استبدال السؤال، يغير الوقائع، فما يزال الشعب لا يقرأ، في بلداننا، بل إن القراءة هذه الأيام، في سوريا، لا تملك سوى رصيد فقير من القرّاء. غير أن الأهم من ذلك كله هو هذه الحاجة الوجدانية لدى الناس، للاستفسار عما يقوله الفن في شأن الحياة، وهو أمر يقرر المدى العميق لما سماه آرنست فيشر ذات يوم : ضرورة الفن.

اللافت أكثر هو أن يكون السؤال في زمن السلم: لماذا تكتب؟ وأن يكون السؤال في زمن الحرب: ماذا تكتب؟

وهكذا بتنا اليوم جميعاً في انتظار غودو الرواية، أو القصة، أو الشعر، أو المسرح، هذا الذي سوف يكتب لنا عن الثورة، وفيما يموت الآلاف من أبناء الشعب، من أجل إرساء قيم الحق والعدالة والحرية، تتجسد من جديد الفكرة المضيئة التي تقول إن الأدب لا يموت، ولن يموت.

* روائي من سوريا 

المساهمون