02 أكتوبر 2024
اللامركزية والمعارضة السورية
ما تزال المعارضة السورية تتعامل مع حل الأزمة في بلدها انطلاقا مما يجب أن يكون، لا مما هو قائم، وهو فهم للحل كبّل المعارضة، ومنعها من اجتراح طرق وأساليب من شأنها أن تغير من الواقع الراهن، وإن بشكل تدريجي ومضمر. وهكذا أصرت المعارضة على تسوية سياسية شاملة عبر الانتقال السياسي، وترك الأسد منصبه مع بدء المرحلة الانتقالية، ولم تستوعب أن هذين المطلبين هما في حالة القوة، ولا يمكن تحويلهما إلى حالة الفعل، وترتب على ذلك تعطيل التفكير في إيجاد مخارج أو حلول، وإنْ بسقف سياسي أدنى. وهكذا كان أيضا عندما رفضت المعارضة ربط وقف إطلاق النار مع النظام بمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، لأنها انطلقت من فهم معين، يعتبر وقف إطلاق النار مرتبطا بالحل السياسي، ولم تع أن وقف النار هدف بحد ذاته للمجتمع الدولي، بغض النظر عن طبيعة الحل السياسي وحدوده. وينطبق الأمر نفسه على مفهوم اللامركزية، فقد نظرت المعارضة إلى اللامركزية من زاوية أنها ستقود إلى تغيير النظام، وأنها نوعٌ من سلطة الشبكات المحلية التي تكون بديلا عن سلطة النظام، وهو فهم يتنافى مع الفهم الدولي الذي يعتبر المركزية نوعا من تشارك السلطة مع النظام وفي ظل الدولة الحالية.
وقد نشرت، في ديسمبر/ كانون الأول 2015، مؤسسة راند الأميركية دراسةً سمتها "خطة من أجل السلام في سورية"، ثم أعقبتها بثلاثة أجزاء متفرقة ومتكاملة في الوقت نفسه، أخرها في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. ولم تقرأ المعارضة تلك الدراسة، أو لم تولها الاهتمام الكافي، و"راند" مؤسسة معروفة بقربها من صناع القرار في واشنطن، وخصوصا وزارة الدفاع (البنتاغون)، وتأخذ الإدارات الأميركية المتعاقبة توصياتها على محمل الجد. وقد تحدثت الدراسة عن وقف إطلاق النار، وإقامة ثلاث مناطق خالية من القتال، ورابعة لقتال تنظيم الدولة الإسلامية، وعن ضرورة اللامركزية في دفع عملية السلام عبر توزيع للسلطة. وقد جاء هذا قبيل طرح الروس فكرة وقف إطلاق النار.
إما أن هذه الدراسة تبنتها الإدارة الأميركية بمجملها، وتم التفاهم لاحقا مع الروس على تنفيذها، أو أن الروس أدركوا أن واشنطن تبنت الدراسة، وسارعوا إلى تنفيذها بمفردهم، من دون
التنسيق مع الإدارة الأميركية. وفي كل الأحوال، لم تول المعارضة السياسية والعسكرية اهتماما بفكرة اللامركزية، وتعزيز دور المجالس المحلية المنتخبة في مناطق سيطرتها، وباستثناء تجربة سراقب المميزة، شهدت تجارب المجالس المحلية الأخرى نكوصا واضحا لأسباب كثيرة، منها ضعف الخبرة، وهيمنة الأنا الفردية على الأنا الجماعية، وهيمنة الفصائل المسلحة، وضعف الدعم الدولي، وعدم اهتمام الدول الإقليمية الداعمة للمعارضة بأهمية المجالس المحلية، ودورها في تعزيز سلطة المعارضة، وإيجاد بدائل حقيقية تعوض عن غياب مؤسسات الدولة. ومن المفارقات أن هيئة تحرير الشام استطاعت تلمس الاهتمام الدولي بمسألة المجالس المحلية، فعمدت إلى تشكيل حكومة الإنقاذ ومجالسها المحلية الخاصة، في وقت لم تستطع فصائل المعارضة، ولا الحكومة المؤقتة، دعم هذه التجارب وتطويرها.
لم يعد بالإمكان نشوء نظام سياسي ديمقراطي في سورية من دون تطبيق نموذج اللامركزية، إما على صيغة المعارضة أو على صيغة النظام مع تطوير القانون الحالي للإدارة المحلية، بما ينسجم مع الوقائع القائمة على الأرض. وهنا تبدو اللامركزية أو الإدارة المحلية المطورة مهمة لجهة دعم الحل السياسي، فمن دون توزيع شبكات السلطة على المحليات، لن يجد وقف إطلاق النار طريقة إلى الديمومة، ذلك أن اللامركزية تسمح للمحليات بالتعبير عن نفسها اقتصاديا وإداريا، وتلغي حالة انعدام الثقة بين جميع الأطراف المتنازعة.
وستكون اللامركزية بمثابة الترياق ضد حالة انعدام الثقة بين مكونات الشعب السوري، وستلعب دورا مهما في تعزيز المواطنة والانتماء إلى الدولة، بعدما عاشت هذه المحلية حالة اغتراب عنها، وسيكون للشبكات التقليدية (رجال أعمال، رجال دين، شخصيات عامة، عائلات محترمة) دور في المرحلة المقبلة، بعدما كان دورهم قبل الثورة يُختزل باعتبارها متمما لعمل النظام في متاهات المحليات الضيقة. كما أن تطبيق اللامركزية، بمفهومها الواسع، سيحد من الفساد المستشري في جنبات الدولة، ويزيد من الرقابة الإدارية والمالية، ويمنح المحافظات والمحليات الصغيرة الفرصة لإعادة استثمار الموارد بطريقة عادلة.
اللامركزية الإدارية وسيلة وهدف في آن معا، وسيلة لأنها تمكن المعارضة من تثبيت دعائم الحكم المدني، وهدف لأنها تحول دون استمرار الحكم المركزي الشمولي مستقبلا. وعلى المعارضة تركيز جهودها، في المرحلة المقبلة، على تعزيز المجالس المحلية ضمن خطة استراتيجية، في ظل انعدام أية خطة عسكرية واقعية، إذا ما انهارت الهدنة، وفي ظل استحالة إعادة توحيد البلاد تحت قيادة موحدة متفق عليها في المديين، القريب والمتوسط.
وقد نشرت، في ديسمبر/ كانون الأول 2015، مؤسسة راند الأميركية دراسةً سمتها "خطة من أجل السلام في سورية"، ثم أعقبتها بثلاثة أجزاء متفرقة ومتكاملة في الوقت نفسه، أخرها في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. ولم تقرأ المعارضة تلك الدراسة، أو لم تولها الاهتمام الكافي، و"راند" مؤسسة معروفة بقربها من صناع القرار في واشنطن، وخصوصا وزارة الدفاع (البنتاغون)، وتأخذ الإدارات الأميركية المتعاقبة توصياتها على محمل الجد. وقد تحدثت الدراسة عن وقف إطلاق النار، وإقامة ثلاث مناطق خالية من القتال، ورابعة لقتال تنظيم الدولة الإسلامية، وعن ضرورة اللامركزية في دفع عملية السلام عبر توزيع للسلطة. وقد جاء هذا قبيل طرح الروس فكرة وقف إطلاق النار.
إما أن هذه الدراسة تبنتها الإدارة الأميركية بمجملها، وتم التفاهم لاحقا مع الروس على تنفيذها، أو أن الروس أدركوا أن واشنطن تبنت الدراسة، وسارعوا إلى تنفيذها بمفردهم، من دون
لم يعد بالإمكان نشوء نظام سياسي ديمقراطي في سورية من دون تطبيق نموذج اللامركزية، إما على صيغة المعارضة أو على صيغة النظام مع تطوير القانون الحالي للإدارة المحلية، بما ينسجم مع الوقائع القائمة على الأرض. وهنا تبدو اللامركزية أو الإدارة المحلية المطورة مهمة لجهة دعم الحل السياسي، فمن دون توزيع شبكات السلطة على المحليات، لن يجد وقف إطلاق النار طريقة إلى الديمومة، ذلك أن اللامركزية تسمح للمحليات بالتعبير عن نفسها اقتصاديا وإداريا، وتلغي حالة انعدام الثقة بين جميع الأطراف المتنازعة.
وستكون اللامركزية بمثابة الترياق ضد حالة انعدام الثقة بين مكونات الشعب السوري، وستلعب دورا مهما في تعزيز المواطنة والانتماء إلى الدولة، بعدما عاشت هذه المحلية حالة اغتراب عنها، وسيكون للشبكات التقليدية (رجال أعمال، رجال دين، شخصيات عامة، عائلات محترمة) دور في المرحلة المقبلة، بعدما كان دورهم قبل الثورة يُختزل باعتبارها متمما لعمل النظام في متاهات المحليات الضيقة. كما أن تطبيق اللامركزية، بمفهومها الواسع، سيحد من الفساد المستشري في جنبات الدولة، ويزيد من الرقابة الإدارية والمالية، ويمنح المحافظات والمحليات الصغيرة الفرصة لإعادة استثمار الموارد بطريقة عادلة.
اللامركزية الإدارية وسيلة وهدف في آن معا، وسيلة لأنها تمكن المعارضة من تثبيت دعائم الحكم المدني، وهدف لأنها تحول دون استمرار الحكم المركزي الشمولي مستقبلا. وعلى المعارضة تركيز جهودها، في المرحلة المقبلة، على تعزيز المجالس المحلية ضمن خطة استراتيجية، في ظل انعدام أية خطة عسكرية واقعية، إذا ما انهارت الهدنة، وفي ظل استحالة إعادة توحيد البلاد تحت قيادة موحدة متفق عليها في المديين، القريب والمتوسط.