اللامرئيون
الأمر بسيط جدا.. لا تكن أبله! وتصدق حقيقة رداء الاختفاء، ما هذا الهراء؟، في الحقيقة هو مسحوق كيميائي صنعته بنفسي يكفي أن تتناول القليل منه حتى تختفي دون أي أثر.
هل تصدقني إذا قلت لك: إنني في إحدى المرات بقيت متخفيا لبضع سنوات، مع أني كنت أعود كل يوم للنوم في المنزل، لأجد أمي تبكي غيابي، وكثيرا ما أسمعها وأضحك من كلامها بأن الشياطين الزرق قد غيبته وراء الشمس.. مسكينة أمي كنت طوال الوقت أمامها ولم تكن تراني.
مرة شربت قليلا من المسحوق وانتظرت حتى أصبحت لامرئياً، وخرجت من المنزل، رأيت مظاهرة تهتف ضد الرئيس، سرعان ما وجدتني في المقدمة وأصرخ بأعلى صوتي معهم، حتى أن أياً منهم لم ينتبه لوجودي، إلى أن جاءت سيارات سوداء مسرعة، نزل منها عدد من الأشخاص وبدأوا بملاحقة المتظاهرين، وبما أني كنت لامرئياً فقد وقفت واضعا يدي خلف ظهري أتابع بصمت، في حين تفرق المتظاهرون في كل الجهات.
طبعا أشفقت على جميع المتظاهرين، وتمنيت لو أنني أستطيع أن أمنح كلاً منهم القليل من مسحوقي السحري الذي اكتشفته، ولكن في الحقيقة ما أثار دهشتي، هو أنني أثناء متابعتي لمشاهد المطاردة بين المتظاهرين وقوات النظام، رأيت العديد من اللامرئيين يضعون أيديهم خلف ظهورهم مثلي تماما ويتابعون ما يجري!
للأسف تمكنت قوات النظام من اعتقال عدد من المتظاهرين ووضعتهم في صناديق السيارات السوداء تلك وسارت بها بأقصى سرعة، كل هذا ونحن اللامرئيين نتابع عاقدين أيدينا خلف ظهورنا.
اختفى الجميع وبقي ثلاثة، طفل وأنا ورجل عجوز، كنت أقف على مسافة واحدة من الطفل والرجل العجوز، صرخت على الطفل بأن يقترب مني، وذهبنا نحن الاثنين باتجاه العجوز الذي استدار بدوره باتجاهنا حتى أني رايته يمسح دموعه.
نحن الآن ثلاثة لامرئيين، طفل وأنا وعجوز، نقف عاقدين أيدينا خلف ظهورنا، الطفل والعجوز لا يرفعان بصرهما عني، أما انا فأتنقل ببصري بينهما، بقينا على هذه الحال وقتا ليس بالقليل، حتى بادرت أنا بالقول:
ماذا نفعل الآن؟
الطفل بحماس: لن نرجع إلى منازلنا حتى يطلق سراحهم.
انتظر العجوز حتى ينهي الطفل كلماته وقال: هذا جنون، لن نستفيد شيئا سوى تزايد عدد المعتقلين..
قلت حتى انهي هذا النقاش: عندي فكرة، وبدون أن أنتظر جوابهما، أردفت.. بما أننا لامرئيون، ما رأيكم أن نأخذ مسحوق اللامرئيين ونلحق بهذه السيارات وكل معتقل نعثر عليه نعطيه القليل من المسحوق وعندما يصبح لامرئيا نعيده معنا، ثم نفكر بالخطوة التالية. ومشيت بعيدا عن الاثنين، لحقني الطفل مسرعا أما الرجل العجوز فنفث دخانا من سيجارة كانت بين شفتيه ونظر ذات اليمين وذات الشمال ثم لحق بنا بخطى بطيئة نوعا ما.
لم يطل مسيرنا حتى كنا نحن الثلاثة على أبواب السجن عاقدين أيدينا خلف ظهورنا مطمأنين، فضّل الاثنان الانتظار في الخارج ريثما أعود باعتباري غير مرئي. لم يشعر الحارس بدخولي، نزلت درجات وصعدت أخرى دون أن يراني أحد، حتى أن الحراس كانوا يصطدمون بي أو كانت بنادقهم ترتطم بجمجمتي وعظامي دون أن يلاحظوا وجودي، وأنا كنت أتجول بمنتهى الطمأنينة وراحة البال، لأنني بكل بساطة أنتمي اليوم إلى اللامرئيين.
قررت البحث بكل الغرف، دخلت غرفة رأيت طفلا وقد اجتمع على تعذيبه ثلاثة أو أربعة حراس، وبما أنني لامرئي اقتربت من الطفل وأطعمته قليلا من المسحوق وهمست له بأن ينتظر بضع دقائق ويلحق بنا، وانتظرته إلى أن أغمض عينيه، ووقف تاركا الحراس وانضم إلي.
في الغرفة الثانية رأيت رجلا عجوزا يتوسل الحراس ويترجاهم أن يحترموا كبر سنه، لم أنتظر كثيرا، حتى كان مسحوق اللامرئيين على شفتيه، وكما الطفل همست له، وما هي إلا دقائق حتى كان هو أيضا معنا.
بحثت كثيرا، ودخلت العديد من الغرف قبل أن أعثر على شاب مغمض العينين مبتسم، أنهك الحراس من تعب تعذيبه، وبالكاد يلتقطون أنفاسهم.. قبل أن أتجه نحوه، رأيته ينهض وكأنه يخطب بنا، قال: دعونا نغادر هذا المكان، فنحن الآن لامرئيون ويمكننا الإفلات بسهولة.
في الخارج كان جمع من الناس ينتظر خروجنا، أسرع أربعة رجال لحمل الشاب على أكتافهم غادر الجميع المكان، لحقتهم أمي وأبي وجميع أصدقائي حتى الطفل لحق بهم.
كنت أظن أنني الآن أقف مع الرجل العجوز فنحن لامرئيون، وما هي إلا ثوان حتى رأيت الرجل العجوز اللامرئي يبتعد عني متجها إلى المقبرة وهو يعقد يديه خلف ظهره!
أقف وحيدا منتظراً، لا أحد، أحدث نفسي، وأتذكر حياتي مع اللامرئية.