القوة تهزم الشرعية

15 يونيو 2015
+ الخط -
في الأسابيع الأخيرة، تغير خطاب القوى المساندة للشرعية في أكثر من حالة، بدءاً بمصر، مروراً باليمن انتهاء بليبيا. فقد كانت القوى والأطراف التي تتمسك بالشرعية في هذه البلدان تعتبر عودة الشرعية الممثلة في الرئيس، أو السلطة المنتخبة، غاية نهائية، وحداً أدنى في الوقت نفسه. ومضى من العام معظمه، بعد سقوط الشرعية في ليبيا، ثم في اليمن، وثلاثة أعوام في مصر، ولم تعد الشرعية ولم يسقط من أسقطوها. بل على العكس، فالوضع بين ترسيخ لسلطة فرضت نفسها على الأرض، وتكاد تثبت أقدامها في مصر، وصراع مسلح على الأرض والحكم في ليبيا واليمن. فلم يعد للحديث عن الشرعية محل، حيث القوة تفرض نفسها، وتخلق لنفسها شرعية أو تختلقها، لا مشكلة. 
الحق أو الشرعية ليست عصا سحرية في يد صاحبها، يقول للسلطة عودي فتعود. معضلة أصحاب الشرعية ومؤيديهم أنهم حسبوا امتلاك الشرعية وحده يكفي لاستعادة السلطة. كأنها وحدها تمثل قوة جبر وإلزام تجاه الآخرين المغتصبين. ولو أن الشرعية تملك قوتها في ذاتها، لما تجرأ أحد عليها ولامتنعت أمام أدوات القوة الفعلية، سواء العسكرية أو السياسية أو الإعلامية. تلك المعادلة المثالية التي تستند إلى اكتساب الأطر والقواعد المتفق عليها قوة ملزمة، وإجباراً تلقائياً. معطلة في بلداننا، مفعلة فقط في الدول التي سبقتنا بقرون، نحو بلورة عقد اجتماعي بين الشعب والسلطة، توافق بدأ طوعياً، واكتسب بمرور الزمن حجية، ثم إلزاماً لذلك المجتمع الذي قيّد نفسه بها، راضياً مَرضياً، فخرجت المسألة من طور الطواعية والاختيار إلى نطاق الجبر والانصياع، فردياً وجماعياً.
هنا مكمن القصور في تفكير "إخوان" مصر وثوار ليبيا ورفاق المبادرة الخليجية في اليمن، فقد توهموا أن معهم صكاً مفتوحاً بامتلاك السلطة، بموجب تفويض انتخابي في الداخل، وقبول لحظي من الخارج. وفاتهم أن الخارج تجاوب مع الربيع العربي تكتيكياً لا استراتيجياً. وأن الشعوب في الداخل لا يكون بيدها من الأمر شيء، إذا أُخرست أصوات الصناديق، وعلا صوت البنادق.
استغرق هذا التسليم بالأمر الواقع وقتاً طويلاً، قبل أن يدركه مؤيدو الشرعية. لذا، جاء التحول في الأداء السياسي والإعلامي لهم واقعياً، وإن كان بطيئاً. فلم تعد عودة محمد مرسي حداً أدنى لحل الأزمة في مصر، ودخل "المؤتمر الوطني" في جولات حوار، ولا يمانع في حكومة مشتركة مع برلمان طبرق، بينما يبدي عبد ربه منصور هادي وداعموه المرونة تلو الأخرى مع الحوثيين ومن ورائهم. لكن الحالات الثلاث ليست متماثلة، فالوضع في اليمن وليبيا تجاوز بوابة المبادرات والتسويات التفاوضية، وصار مدخل الحل ميزان القوة على الأرض، وبقدر المكاسب الميدانية ستكون الحصة السياسية. أما في مصر، فالفجوة الواسعة في القوة دفعت "الإخوان المسلمين" إلى الرهان على عنصري الحراك الشعبي في الداخل ومواقف القوى الكبرى في الخارج. ظناً أنهما عنصرا ضغط وإجبار كفيلان بإعادة الأوضاع إلى أصلها. لذا، لم يحتجْ اليمنيون والليبيون إلا نحو عام، ليدركوا جوهر المعادلة الحاكمة للصراع، بينما تدخل الأزمة في مصر عامها الثالث، ولتوهم يدرك "الإخوان" فشل الرهان على الخارج والمبالغة في الاعتماد على الداخل. وها هو الخارج يعترف بالسيسي فعلاً، إن لم يكن قولاً، بينما يتقهقر الداخل أمام القمع الأمني. تقارب الموازين وتوزع القوة عجل بتطور الصراع في اليمن وليبيا وقبلهما سورية إلى حرب أهلية ثم إقليمية. أما في مصر، فاستدعاء العنف التقليدي لتجسير فجوة القوة سيفتح باباً واسعاً للقضاء نهائياً على الطرف الأضعف المستجد في استخدام القوة. فالضعف النسبي لم يحافظ على الشرعية في ليبيا واليمن، بينما الضعف المطلق هزم الشرعية بالضربة القاضية في مصر. الحق الأعزل أهون عند الناس من الباطل المسلح. وشرعية بلا قوة تنهزم أمام قوة بلا شرعية.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.