19 نوفمبر 2024
القضاء العراقي .. متى يستقيم الظل؟
لا يمكنك أن تسعى إلى بناء دولة، من دون أن تكون لك أسلحة كافية للبناء، فما بالك بدولة بحجم العراق وأهميته وكثرة المتنازعين عليه منذ الاحتلال الأميركي عام 2003؟ ولعل واحداً من أهم أسلحة البناء، أو إعادة البناء، وجود جهاز قضائي مستقل، قادر على أن يفصل في ما يراه مناسباً بين مختلف الأطراف، وهو ما افتقده العراق منذ 2003، بل تحوّل الجهاز القضائي في العراق إلى واحد من أهم أسلحة تهديم ما بقي من الدولة العراقية التي أُسقطَت عقب الغزو الأميركي، واستُبيحَت بنحو لم يسبق له مثيل.
كان سلاح القضاء من بين أكثر الأسلحة التي استُخدمت في إطار الحرب التي استعرت سريعاً بين مختلف الأطراف العراقية التي جاءت بها القوات الغازية، ونصبتها في سدّة الحكم، باستخدام صناديق الاقتراع طبعاً، بل كاد أن يكون القضاء العراقي واحداً من بين أكثر الأسلحة الفتاكة التي استخدمتها الأطراف الممسكة بالسلطة، وخصوصاً إبان فترة حكم رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي (2006 - 2014) الذي وجد في القضاء وسيلته للتخلص من خصومه السياسيين، فكان أن لاحق، بشتى التهم والذرائع، كل خصم سياسي رفض أن يكون ضمن ركبه وسياسته وطريقة إدارته أمور البلاد، بل لم يتورع عن استخدام القضاء سلاحاً في انتزاع رئاسة الحكومة عقب انتخابات 2010، يوم لجأ إلى المحكمة الاتحادية لتفصل في تبيان الكتلة الأكبر بعد انتخابات شهدت فوز القائمة العراقية برئاسة إياد علاوي بالمركز الأول، فلم يجد من بد في اللجوء إلى المحكمة لتفسير الكتلة الأكبر، وحصل منها على تفسير قانوني، سهّل
له المرور إلى رئاسة ثانية امتدت من 2010 إلى 2014، وسلب القائمة الفائزة حقها. الأكثر من ذلك، استخدم المالكي القضاء لملاحقة شخصيات سياسية عراقية عديدة، منها نائب رئيس الجمهورية الأسبق طارق الهاشمي، ووزير المالية الأسبق رافع العيساوي، وغيرهما، ممن رفضوا أسلوب المالكي في إدارة البلاد وتقاطعوا معه، ما اضطرهم إلى مغادرة البلاد، خشية من عمليات التصفية القضائية التي شرع بها المالكي ضدهم.
يعود اليوم الحديث عن القضاء العراقي، بعد عودة رافع العيساوي، وتسليم نفسه للقضاء، لمحاكمته عن التهم التي وُجهت إليه، في ما يبدو أنها صفقة تدخلت فيها أطراف عراقية وأخرى إقليمية، في إطار غلق ملفات ظلت تشكل عقبة أمام إعادة تشكيل المشهد السياسي العراقي الذي وصل إلى حافّة الهاوية، وبات أقرب إلى السقوط، على الرغم من كل الحلول الترقيعية التي لجأت إليها الحكومات العراقية، وآخرها حكومة مصطفى الكاظمي التي وجدت نفسها في لجّةٍ من مشكلاتٍ وأزماتٍ لا يبدو أنها ستخرج منها سالمة.
تسعى أطراف عراقية عديدة متحكمة بالمشهد السياسي، ومن ورائها أطراف خارجية، إلى محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من عملية سياسية بائسة، خرج عليها الشارع العراقي منذ عام 2011 وحتى تظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول الماضي التي نادت بإسقاط العملية السياسية
وكل رموزها. وقد تمحور هذا السعي الذي قامت به تلك الأطراف، أخيراً، حول النية لإعادة عديدين من شخصيات العملية السياسية التي جرت ملاحقتها بتهم واهية، ومن دون أي أسس قانونية أو قضائية، فقط هي محاولة من المالكي وحزبه لقمع أي رأي معارض لسياساته وسياسات حزبه (الدعوة).
ليس سرّاً القول إن القضاء العراقي مسيَّس، فحتى رئيس إقليم كردستان السابق والزعيم العراقي الكردي، مسعود البارزاني، وصفه كذلك في حوار مطول معه قبل سنوات، وقال إنه قضاء "يجرّم البريء، ويبرّئ المجرم"، والامثلة على ذلك أكبر بكثير من أن تعد أو تحصى.
لم تنجح العملية السياسية في العراق منذ عام 2003 في إبعاد القضاء العراقي عن مسالكها، بل حوّلته إلى قضاء تحت الطلب، وفقد هذا القضاء ثقة العراقيين به، بل تحوّل إلى واحد من أهم أسباب ما وصل إليه العراق اليوم من سوء أوضاع وتردّي أحوال، أجبرت العراقيين على الخروج بالملايين في عدة محافظات، مطالبين بإسقاط هذه العملية السياسية.
اليوم، هناك إمكانية، وإنْ ضئيلة، أمام رئيس الحكومة الحالي، مصطفى الكاظمي، من أجل
استعادة ثقة العراقيين بقضائهم، ولعل واحداً من أهم تلك الملفات التي يمكن أن يبدأ بها في هذا الشأن، الإيعاز إلى القضاء العراقي بإعادة النظر بملفات آلاف العراقيين المحكومين بتهم كيدية، كان بطلها المخبر السري، أدّت بهم إلى المعتقلات، وساقت بعضهم إلى مشانق الإعدام، من دون أدلّة قانونية معتبرة.
هناك اليوم آلاف من العراقيين زُجوا في السجون بتهم شتى، في ظل رضوخ شبه تام من القضاء للسلطة التنفيذية التي حوّلته إلى سلاح انتقام، وليس سلاح عدالة. ومن هنا، لا بد للكاظمي أن يفتح هذا الباب، وأن يشرع بالنظر في تلك الملفات التي أرهقت العراقيين طوال سنوات مضت. ويأتي بعد ذلك النظر في ملفات عشرات السياسيين الذين لُفِّقَت شتى التهم لهم، وزُجّوا في المعتقلات، أو أُجبِروا على مغادرة العراق، مع تقديم الاعتذار لهم عمّا لحق بهم من تشهير وأذى نفسي طوال تلك السنوات.
بناء الدولة يبدأ من القضاء، فتوفير قضاء عادل ونزيه سيُسهم في استعادة العراقي ثقته بسلطاته الثلاث مجتمعة، التشريعية والتنفيذية والقضائية، فلا يمكن أن يستقيم الظل والعود أعوج.
يعود اليوم الحديث عن القضاء العراقي، بعد عودة رافع العيساوي، وتسليم نفسه للقضاء، لمحاكمته عن التهم التي وُجهت إليه، في ما يبدو أنها صفقة تدخلت فيها أطراف عراقية وأخرى إقليمية، في إطار غلق ملفات ظلت تشكل عقبة أمام إعادة تشكيل المشهد السياسي العراقي الذي وصل إلى حافّة الهاوية، وبات أقرب إلى السقوط، على الرغم من كل الحلول الترقيعية التي لجأت إليها الحكومات العراقية، وآخرها حكومة مصطفى الكاظمي التي وجدت نفسها في لجّةٍ من مشكلاتٍ وأزماتٍ لا يبدو أنها ستخرج منها سالمة.
تسعى أطراف عراقية عديدة متحكمة بالمشهد السياسي، ومن ورائها أطراف خارجية، إلى محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من عملية سياسية بائسة، خرج عليها الشارع العراقي منذ عام 2011 وحتى تظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول الماضي التي نادت بإسقاط العملية السياسية
ليس سرّاً القول إن القضاء العراقي مسيَّس، فحتى رئيس إقليم كردستان السابق والزعيم العراقي الكردي، مسعود البارزاني، وصفه كذلك في حوار مطول معه قبل سنوات، وقال إنه قضاء "يجرّم البريء، ويبرّئ المجرم"، والامثلة على ذلك أكبر بكثير من أن تعد أو تحصى.
لم تنجح العملية السياسية في العراق منذ عام 2003 في إبعاد القضاء العراقي عن مسالكها، بل حوّلته إلى قضاء تحت الطلب، وفقد هذا القضاء ثقة العراقيين به، بل تحوّل إلى واحد من أهم أسباب ما وصل إليه العراق اليوم من سوء أوضاع وتردّي أحوال، أجبرت العراقيين على الخروج بالملايين في عدة محافظات، مطالبين بإسقاط هذه العملية السياسية.
اليوم، هناك إمكانية، وإنْ ضئيلة، أمام رئيس الحكومة الحالي، مصطفى الكاظمي، من أجل
هناك اليوم آلاف من العراقيين زُجوا في السجون بتهم شتى، في ظل رضوخ شبه تام من القضاء للسلطة التنفيذية التي حوّلته إلى سلاح انتقام، وليس سلاح عدالة. ومن هنا، لا بد للكاظمي أن يفتح هذا الباب، وأن يشرع بالنظر في تلك الملفات التي أرهقت العراقيين طوال سنوات مضت. ويأتي بعد ذلك النظر في ملفات عشرات السياسيين الذين لُفِّقَت شتى التهم لهم، وزُجّوا في المعتقلات، أو أُجبِروا على مغادرة العراق، مع تقديم الاعتذار لهم عمّا لحق بهم من تشهير وأذى نفسي طوال تلك السنوات.
بناء الدولة يبدأ من القضاء، فتوفير قضاء عادل ونزيه سيُسهم في استعادة العراقي ثقته بسلطاته الثلاث مجتمعة، التشريعية والتنفيذية والقضائية، فلا يمكن أن يستقيم الظل والعود أعوج.