القشلة تروي حكايات العراق بعد صمت عقدين

06 يناير 2015
الحصن العثماني في طور الترميم (عمر علو)
+ الخط -

تنعكس صورة القشلة في مرايا مياه دجلة، الذي يلاعب بلطماته الحنونة أطراف سورها، وكأنّهما عاشقان يتنزّهان جنباً إلى جنب ويتلاطفان.

الدخول إلى القشلة اليوم صار متاحاً للجميع. ها هي تفتح أبوابها من جديد للزائرين، بعد فترة مظلمة مرّت عليها، طالت من جرائها أيادي العبث والتخريب الكثير من مرافقها بعد احتلال العراق في 2003، وما ترتّب عليه من نكسات، كما هو حال كلّ شيء في ذلك البلد.

المبنى الذي يُعرف بين البغداديين باسم القشلة، هو في حقيقته "ديوان الحكم" أيّام العثمانيين، ويشمل "مجمع السراي" الذي يضمّ عدداً من الأبنية في المنطقة المحيطة بديوان الحكم، "السراي"، التي كانت تُعنى بتسيير أمور الدولة، والتي بُنيت في النصف الثاني من القرن 18 في زمن والي بغداد التركي، نامق باشا، لتؤسّس عهداً جديداً من الإدارة والتنظيم والحياة العصرية التي بدأت تتلمّسها مدينة بغداد وأهلها في ذلك الحين.

في الثالث والعشرين من شهر مارس/آذار من عام 2013، أعيد افتتاح مبنى القشلة، ليتحوّل إلى واحة فيها الكثير من المتنفّس والحرية للمواطنين العراقيين، حيث تنتشر بين جنباتها وعلى حدائقها وفي قاعاتها فعاليات سياسية وثقافية وأدبية، يتبنّاها مثقّفون وفنّانون وناشطون مدنيّون يؤمنون بالدور الثقافي والتاريخي لهذا المبنى العريق.

يقول مدير مبنى القشلة، الخطّاط والفنان المعروف أكرم العزاوي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنّ إعادة تأهيل هذا المبنى لم يكن بالأمر السهل، فهو تسلّم المبنى وقد سُرقت أبوابه وشبابيكه، وكان يعجّ بالأدغال ومخلّفات البناء والأنقاض والآفات: "إنها مهمّة كبيرة، فهو أهمّ الأماكن التراثية المهمّة في العراق. مهمّتي دقيقة وصعبة". الإحساس بهذه المسؤولية الكبيرة واضح على العزّاوي في كلّ حركة يؤدّيها وكلمة يقولها، حتى إنه يسكن المبنى ولا يبارحه ليل نهار.

يضيف العزاوي: "جمعت معلومات عن المبنى من مختلف المصادر، وما زلت أجمع، فهذا المبنى وما يحيط به من مبانٍ قديمة يمثّل حقبة مهمّة من تاريخ العراق".
استغلّ العزّاوي اهتمام الجهات الحكومية التي قرّرت تأهيله ليشهد فعاليات "بغداد عاصمة الثقافة العربية لعام 2013"، فنجح في تجاوز عقبة الوقت، وأنجز مهمّته في 5 أشهر.

يتابع العزاوي: "في عام 2012، بدأت محافظة بغداد تفكّر، بشكل فعليّ، في إعادة الحياة إلى هذا المكان الذي أُهمل بشكل كبير، وأصبح مكباً للنفايات والأنقاض، وسُكن من قبل العوائل الفقيرة، وسُرقت الكثير من أبوابه وشبابيكه... بدأنا نعيد صيانته على مراحل، وحتى الآن لم ننته بشكل كامل من أعمال الصيانة، واليوم نستغلّ نصف المبنى المنجز".

منذ افتتاحه، يستقبل "القشلة" زوّاره الكثيرين يوم الجمعة فقط، بسبب تواصل أعمال التأهيل داخل المبنى، ولكنّ مدير المبنى الموجود داخله طيلة أيّام الأسبوع يضطر أحياناً إلى الرضوخ لطلبات الزائرين في غير يوم الجمعة.

الحصن
والقشلة، كلمة تركية أصلها "قشلاغ"، تعني المكان الذي يمكث فيه الجنود أو الحصن أو القلعة. تاريخياً، أوّل مَن بنى هذا المكان والي بغداد، محمد نامق باشا، سنة 1850 ميلادية، وأكمل البناء الوالي مدحت باشا عام 1869، الذي شيّد الطابق الثاني وبرج ساعة القشلة الحالي، مستخدماً بقايا طابوق سور بغداد الشرقي، الذي نُقل لإكمال مرافق البناية الضخمة، باعتبار أنّ الحاجة انتفت لوجود سور يحيط بالمدينة، بعد أن بلغت القوّة العسكرية في الولاية مبلغاً يُشار إليه.

ومن مآثر هذا المبنى أنّه شهِد تتويج ملكين من ملوك العراق، هما فيصل الأوّل والملك غازي. وبحسب العزاوي، فإنّ كلّ الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق منذ إنشاء هذا المكان وضعت لمسة خاصة عليه، حتى الإنجليز تركوا بصمتهم حين وضعوا مؤشّر قياس سرعة الرياح فوق برج الساعة، ومؤشّر نسبة ارتفاع مياه نهر دجلة لمعرفة المنسوب لتدارك الفيضانات.

منابر حرّة
لا موقع يشبه القشلة اليوم في بغداد، فيه تجتمع عناصر مختلفة، فهو يجمع التاريخ والثقافة والفنّ والسياسة، وتقام داخله فعاليات مختلفة، ويقصده في وقت واحد آلاف الزائرين. ويشير العزاوي إلى أنّ معدّل عدد الزوار الطبيعي 3000 ويصل إلى 6000 زائر حين تكثر النشاطات والفعاليات المختلفة، ويستطرد: "منذ البداية، قرّرنا ألا نعمل بشكل عشوائي، بل وضعنا خطّة، من ضمنها استقطاب النخب التي تستطيع تقديم شيء للمجتمع، فنحن نشجّع الحِرف التي بدأت تزول ونعرضها للزائرين، ونستقطب الفرق الفنّية التراثية البغدادية. وأكثر ما جذب الناس هو عدم وجود خطوط حمراء، بإمكان المواطن أن يبدي رأيه بصراحة عبر تخصيص منابر حرّة، ويستمع للآخرين باحترام". 

ننوّه هنا إلى أنّ المشروع القادم هو تأهيل البنايات التراثية الأخرى المحيطة بالمبنى، والتي كانت تمثّل الدوائر الحكومية إبان الحكم العثماني والعهد الملكي، في محاولة جادّة لإعادة الألق إلى بعض الأبنية التراثية والأحياء البغدادية القديمة.

حكاية ساعة القشلة
بعد إنجاز مبنى القشلة، ظهرت حاجة إلى ابتكار وسيلة حديثة لتنبيه العسكر وإيقاظهم صباحاً بدلاً من استخدام البوق القديم، وهكذا وُلدت "ساعة القشلة" الشهيرة، والتي هي اليوم واحدة من أقدم الساعات المعمارية في العالم.

وقد أهدى ملك بريطانيا، جورج الخامس، مدينةَ بغداد تلك الساعة الميكانيكية التي يسمعها جميع أهالي الكرخ والرصافة، بعد عشر سنوات فقط من تاريخ نصب ساعة "بيغ بن" الشهيرة في لندن، وكانت ساعة القشلة أعجوبة آنذاك، إذ لم يكن أهل بغداد قد رأوا ساعةً توضع فوق منارة بهذا الارتفاع، فكانت أعجوبة زمانها بأوجهها الأربعة ومؤشرها الحديدي الذي يوضح اتجاه الريح، وأسهمها الأربعة وحروفها الانجليزية، إذ كانت ساعات ذاك الزمان هي ساعات الجيوب ذات السلاسل والساعات الجدارية.

ومن فرائدها أنها تعمل بنظام يختلف عن نظام الساعات القديمة، خاصة البغدادية منها، إذ تحتوي ماكينتها على 6 مسنّنات، أما الساعات الأخرى فتحتوي على حوالى 35 مسنناً.
توقّفت الساعة في سبعينيات القرن 20 عقداً كاملاً، كما توقّفت إثر احتلال العراق مطلع القرن 21 مدة عقدين.
بعد ساعة القشلة، عرفت بغداد الساعات الكبيرة ذات الأبراج العالية والمنارات زمن العثمانيين، مثل ساعة الكاظمين (1882)، وساعة الأعظمية (1930)، وصولاً إلى ساعة المحطّة (1955)، وساعة بغداد (1992).
المساهمون