القرآن والإعجاز العددي: وراء ستار من الأرقام

01 يونيو 2019
(من الجامع الكبير بتستور في تونس، تصوير: فتحي بلعيد)
+ الخط -

تتعدد مقاربات النص القرآني بعدد القُرّاء و"الموسوعات" التي يوظّفونها. وتَجهد كلها في محاصرة معناه وهو "الأشد تفلتاً من الإبل في عُقلها". ومن هذه القراءات تلك التي تسلّط الأرقام والمعادلات الرياضية على نسيجه النصّي، بغرض استجلاء مراميه، في مساجلة بين الكلِم والأرقام.

ويمكن تسجيل منظوراتٍ ثلاثة تتنافس في هذا المضمار، حيث تتمثل النزعة الأولى في رصد ما بات يُعرف، في الأدبيات التمجيديّة، بـ "الإعجاز العددي" للقرآن. وتدافع هذه الأطروحة التي ظهرت، بُعيد عصر النهضة، عن التناسب بين أعداد الكلمات والمغزى الخفي من تواردها بذاك العدد. فيحصي القائلون بها عددَ التكرارات ومواضع الكلمات من أجل الخروج بعملية حسابية مُعيّنة.

وقد بَرع في هذا الفنّ ابنُ بُرجان (من مفسرّي القرن السادس الهجري)، حيث تفنن في رصد الارتباط بين عدد الأحرف والتواريخ المُحيلة على أحداث الزمن. فمن ذلك أنه فسّر الآيات الأولى من سورة الروم مثبتاً تاريخ غلبتهم ثم هزيمتهم من خلال التناسب بين عدد الحروف والكلمات الواردة فيها. ومن المعاصرين، اشتهر لدى الناس ما أشاعه بَسام جرار بالاعتماد على الرقم 19.

ومن أبرز ما أنتجه هذا الطرحُ مُخرجات حول التوازن والتناظر في القرآن من ذلك أن كلمة "دنيا" ذُكرت 115 مرة ومقابلها "آخرة" ذُكرت 115 مرة. وجيء بمفردة "عقل" ومشتقاتها 49 مرّة، وقرينها "نور" 49 مرة. وهنا نذكر أبحاث عبد الدائم الكحيل الذي اشتغل على عدد الأوامر بالصلاة الواردة في النص القرآني وهي 19 أمراً، وردت بعَدد الركعات المفروضة في اليوم والليلة.

ولا يخفى ما في هذا التوجه من التكلّف البارد والخروج بالقرآن عن وظيفته الروحية والاصطناع التعسفي للتوازن بين الحروف والأرقام، وهو تعسفٌ يَصرف الناس عن التدبر الهادئ.

وأما المقاربة الثانية، فهي أعرق في تاريخ الفكر العربي-الإسلامي، وقد اشتهرت باسم "حساب الجُمَّل"، الذي كان يُعنى بتسجيل صور الأرقام والتواريخ باستخدام الحروف الأبجدية، ولكل حرف رقمٌ معيّن يدلّ عليه. ومن مجموع هذه الحروف، نَصل إلى التاريخ أو الرقم المقصود. ثم طُبّق على آيات القرآن، وصارَ المشتغلون بهذا "الفنّ" يحصون حسابَ جُملِ بعض الآيات ويزعمون أنها تتوافق مع تاريخ حدثٍ ما. ومن أمثلة ذلك، مجموع حروف آية "وَلَبِثوا في كهفهم ثلاثَ مئة سنين وازدادوا تسعاً"، 309 الذي يتوافق مع المدة المقضية في الكهف.

ولكن، لا ينبغي أن يغرب عن البال أنَّ هذا الحساب لا أساس علميَّ له، وأنّ ما ورد هو محض مُصادفات واتفاقاتٍ، وأنَّ الحساب أيضاً، كما تقف على ذلك نظريات رياضية حديثة، مثلَ الحروف في اللغة محض تحكّم واعتباط. هذا فضلاً عن وجود نظير لاستعمالات الأرقام هذه في ثقافات أخرى مثل اليهودية القديمة والهندية. بل قد توصّل المنتمون إليها بنتائج تدعم "إعجاز" نصوصهم الدينية أيضاً.

وأما ثالث هذه المقاربات، وإن كانت مختلفة في منهجها، فهي الإحصاء المعجمي ومن أبرز مُنجزيه محمد فؤاد عبد الباقي في "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن" و"قاموس الألفاظ القرآنية" لحسين محمد الشافعي وهو دليل أبجدي وبيان إحصائي لجميع ألفاظ القرآن. ويسعى هذا المنهج الإحصائي إلى ذكر الأعداد الدقيقة لورود كل كلمةٍ دون تأويل لذلك التوارد ولا قراءة له.

تسعى هذه المقاربات مجتمعةً إلى إيجاد مواءمة بين الحروف والأرقام واستخلاص مظاهر الإعجاز والتفوّق بعد رصد بعض مظاهر التوافق، لكنها تَغفل عن طبيعة النص القرآني الروحية وتجعل التعامل معه دائراً على الحساب، كما أنها ترسّخ عناصر من الثقافة الباطنية والنزعات السحريّة، ضمن نسيجنا الثقافي المهترئ أصلاً. فلا هي تتلاءم مع التفكير الديني، ولا هي تنسجم مع صرامة الرياضيات، وإنما هي أمشاج من هذا وذاك يحيّر السامعين.

وكيف للمسلم البسيط أن يتثبّت من سلامة فرضيات هذه المناهج إن لم يكن ضليعاً في نظريات الحساب؟ فهل المطلوب أن يُسلم أمرَه لما وصل إليه الباحثون وكفى؟ وفي ذلك تعطيلٌ لعقله مرتين: الأولى أمام القرآن والثانية أمام الرياضيات.

المساهمون