الفن الأفريقي يعانق رحابة العالمية

23 نوفمبر 2015
معرض جمال الكونغو
+ الخط -
تحتضن مؤسسة كارتييه للفن المعاصر الشهيرة في باريس حاليًا معرضًا من نوع خاص: "جمال الكونغو". ولأن هذا المعرض، الذي يشكل استعادة لتاريخ الفن الحديث من أواسط العشرينيات إلى الآن، حقق نجاحًا غير منتظر، فإن المؤسسة مددته إلى مطلع العام القادم، ما يسلط الضوء على الطفرة الدؤوب التي يعيشها الفن الإفريقي عمومًا، بشقّه الشمال - إفريقي
كما بجنوب صحرائه خصوصًا، الأمر الذي يدعونا للتفكّر والتأمل.

في بدايات القرن الماضي، كان الاهتمام المتْحفي كبيرًا بالفنون الإفريقية، باعتبارها فنونًا فطرية، تستدعي الدهشة وتثير الغرابة باستعمالاتها المقدّسة المعبرة عن العقلية الأنيمية (animisme) أو الأرواحية، التي تحرك الإنسان "الطبيعي" الإفريقي. فكانت، أي الفنون، وهي تدخل المتحف تتخلّى عن كامل وظائفها، لتغدو فرجة منتزعة من سياقها، أشبه بتلك الأدوات "البازارية" التي كان يستعملها الرسامون المستشرقون كي يستعيدوا باستيهاماتهم القوية شبق الشرق المفترض.

حين استلهم الفن الغربي الفن الإفريقي، بدءاً من بابلو بيكاسو ومرورًا بالسرياليين والوحشيين، كان مبدأ الغرابة والعودة إلى طفولة الفن، ومن ثم للطبقة الفوقية للاوعي الجمالي، هي ما يتحكم في الاستلهام. فالفن الحديث كان قد استنفد تشخيصيته الدقيقة والفوتوغرافية ومفهومه التقديسي للمرجع والواقع، ليجد في الفن الإفريقي ومنحوتاته وطواطمه، من الإبداع ما يتجاوز بكثير مفهوم المنظور المتحكّم في الفن الغربي منذ عصر النهضة.

اقرأ أيضًا: أعمال فنية تنتهي في القمامة

بيد أن هذا الاهتمام التوظيفي، إن كان اعترافًا ضمنيًا بالقيمة التي تحظى بها الفنون الإفريقية، فإنه من ناحية أخرى يفصح عن تفاعل من جانب واحد. ما كان يحتاجه الفن الإفريقي، هو أن يحظى بالاهتمام المؤسسي، الذي يتفادى التعامل معه باعتباره فنًا قاصرًا، ليمنحه القيمة التي تجعل منه الوجه الآخر للفن العالمي، إن لم يكن بشكل ما، المستقبل المرتقب للفن العالمي.
صار الفن في الغرب يعجز عن إيجاد الماء لطاحونته التي تحظى بكامل الحظوظ التنظيمية والمؤسسية. والفن الإفريقي بتنوعه، يعيش على إيقاع ذاتي، لا يحظى فيه سوى بما يمنحه له إيقاع الزمن والأحداث والفرص والممكنات. أمّا المؤسسات والمهرجانات القليلة التي تحتضنه، فلا تكفي كي تبرز غناه وعمقه، خصوصاً في زمن تتوطّد فيه "المركزية" الغربية الجمالية وتجعل من الغرب المكان الأوحد والمرجع الأسمى للفن.

لنتذكّر كيف تشكّلت هذه الصحوة، المتأخرة طبعًا لكنها فرضت نفسها، مع توالي الحلقات المفرغة في الفن المعاصر الغربي، واستحواذ التخومية الإنطوائية على فنانيه. صحيح أن الفكر الغربي مع موريس بلانشو وجاك دريدا، يحلل الفراغ باعتباره أفقًا للمعنى، بيد أن الفراغ إشكال بصري. لنتذكر ما كتبه رولان بارت كمقدّمة لكتاب عبد الكبير الخطيبي "الاسم العربي الجريح"، حين قال إن الغرب فقد ثقافته الشعبية، بينما لا يزال شمال إفريقيا يعيش ثقافته الشعبية بشكل حي. هذا الفقدان دليل على أن التطور الثقافي، يحوّل الذاكرة الحية إلى ذاكرة متحفية. أما المتحف في البلدان الإفريقية فهو الواقع الحي والحياة اليومية التي ما زالت تحافظ على التراث في قلب اليومي.

وقد كان معرض "سحرة الأرض" الذي نظمه جان هوبير مارتان في مركز جورج بومبيدو بباريس إحدى المحطات المؤسِسة البارزة، في الاهتمام المختصّ بمصائر الفن الإفريقي، وإخراج الفن المعاصر من حدوده التقليدية.

اقرأ أيضًا: معضلة التزييف في الفن

فقبيْل انطلاق العولمة بكافة مظاهرها، جاء ذلك المعرض ليرسم جغرافيا جديدة للفن المعاصر، وليكسر التابوهات التي ترتبط بمركزية أوروبا وريادتها. وهكذا، إلى جانب فنانين إفريقيين ومن القارات الأخرى، كان حظ تمثيل العالم العربي من نصيب فنان مغربي مغمور هو بوجمعة لخضر، الذي فضّله القيّم على المعرض على فريد بلكاهية، وكان هذا الأخير مرشحًا للمشاركة في هذا المعرض المؤسِس. بعد أزيد من عقد على هذا المعرض، سوف تعرض منحوتات الفنان السينغالي عصمان صاو، في جسر الفنون بباريس في سنة 1999، ليزورها أكثر من ثلاثة ملايين مشاهد، وتحقق له وللفن الإفريقي عمومًا اعترافًا لم يحظَ به من قبل.
وفي عام 2005، انطلق معرض "إفريقيا روميكس Africa Remix " من دوسلدورف حتى طوكيو مرورًا بستوكهولم لينتهي في جوهانسبورغ، جامعًا ما يقارب التسعين فنانًا إفريقيًا، من بينهم أسماء كبرى كشيري سامبا وصامويل فوسو. ومن ثم، صارت الصالات، تعرض العديد من الأسماء، كاشفةً عن الصخب التعبيري والقدرات الإبداعية للفنانين الأفارقة، الروّاد منهم والشباب. وكان لبينالي "داكار" كما للعديد من اللقاءات الفنية، دور واضح في تعميق عيانية الفن الإفريقي وحضوره في الساحة الفنية الدولية. بل إن الفوتوغرافيا الإفريقية نفسها، صارت تحظى بأهمية متزايدة، وتخرج من الصالات الإفريقية الصغيرة لتعانق رحابة الفن العالمي.

تعبر هذه الحركية العامّة عن تنامي الاهتمام في العواصم الغربية، بالأسماء الكبرى المبدعة للفن الإفريقي عمومًا، وللفن الإفريقي جنوب الصحراء. فقد بدأت الكثير من الصالات في باريس ولندن وغيرها تنفتح على الفن الإفريقي. وصارت لندن الوجهة الكبرى للفن الإفريقي بعد باريس. يتمّ تنامي سوق الفن اليوم، من خلال المزادات التي بيعت فيها الأعمال بمبالغ غير منتظرة.

ثمة انتعاش جاء محصلةً لحركتين متقاطعتين: الدينامية التي تطبع الفن الإفريقي، والتي فرضت نفسها في المحافل الفنية الدولية؛ والركود الذي صار يطبع الإبداع الفني في الغرب، ليأتي الفن الإفريقي وينعم بعيانية يستحقّها، ولينفخ في الجسم الواهن للفنّ المعاصر الغربي بعضًا من الطراوة والشباب والحيوية، التي يبدو أنه في أمس الحاجة لها كي يجدد دماءه.
المساهمون