علق محراث فلاح من قرية رأس شمرا قرب مدينة اللاذقية على الساحل السوري بصخرة كبيرة ذات يوم عام 1928. توقّف الفلاح عن العمل، وأزاح بيده التراب عن الصخرة من دون أن يعلم أنه بذلك يزيح الغبار عن تاريخ كامل، غاية في الأهمية، مدفون تحت أرضه. كانت تلك الحادثة بداية لاكتشاف مملكة أوغاريت، والتي يعود تاريخها إلى الألف السابع قبل الميلاد.
لكن ما لا يقلّ أهمية عن ذلك كله، كان الرقم الحامل لأقدم نوتة موسيقية تامة في التاريخ البشري، والتي كانت مدونة على 36 لوحة تم اكتشافها عام 1957 ويعود تاريخها إلى 3500 قبل الميلاد، ليستطيع أحد أبناء اللاذقية، العالم راؤول فيتالي، فك رموزها، وتحويل النوتة المكتوبة على الرقيم رقم H-6 إلى نوتة موسيقية واضحة عزفها الموسيقي زياد عجان على البيانو، بإصبع واحد، في حفل اليوبيل الذهبي لاكتشاف أوغاريت في اللاذقية عام 1979.
تعكس التماثيل والنصوص المسمارية المكتشفة في مملكة أوغاريت الحياة الموسيقية التي ازدهرت في تلك المملكة، حيث تشير إلى استخدام العديد من الآلات الموسيقية كالناي والقيثارة والطبل والكنارة أو الرباب، والصنج والمصافق العاجية والخشبية، وهي قطع صغيرة مجوفة أسطوانية الشكل تربط في الأصابع وتقرع الواحدة بالأخرى.
أمّا مملكة ماري، المعروفة باسم تلّ الحريري حالياً، والتي اكتشفها بدو الجزيرة السورية بالقرب من مدينة البوكمال بالصدفة أيضاً عام 1932، فلم تكن أقلّ شأناً من أوغاريت، وكانت مملكة قوية وغنية بكل أشكال الحياة.
تُعتبر آثار ماري أغنى مصدر كتابي مؤرّخ للموسيقى في عصر البرونز، حيت تضمّ رقماً وكتابات جدارية تتحدث عن الموسيقى والهيكل التنظيمي للموسيقيين في القصر الملكي وكيفية اختيار العازفين والمغنين وكذلك أوضاع الموسيقيين المعيشية. ولعل "أورنينا" عازفة ومغنية المعبد ما زالت الرمز الأجمل لحضارة ماري التي تعكس عمق تأثير الموسيقى في حياة الإنسان. وسيبقى اسمها رمزاً لهذا الفن المولود في سورية والمرافق لحضارة الإنسان أينما حلّ.
عزفت ماري الآلات الموسيقية الوترية والإيقاعية والهوائية، كآلة القيثارة ذات الأوتار التسعة وآلة القيثارة المصنوعة من خشب الصندل المغطى بالذهب، وصندوقها الصوتي المصنوع من الجلد، وآلة الهارب.
كما ذكر الأرشيف الملكي أنواع الآلات الموسيقية ومواد صناعتها وتأثير نوع كل مادة على صوت النغم الموسيقي، مثل صناعة الناي من خشب الأبنوس المفضل على خشب التنوب، وصناعة القيثارة من الجلد بعد نقعه في اللبن والحليب والقطران، ثم تلوينها، وكيفية معالجة جلد البقر لصنع الطبول.
وقد عُثر في موقع جرابلس الأثري، في شمال سورية على الحدود التركية السورية وهو موقع مدينة كركميش التي تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، عُثر على منحوتة تمثّل عازف عود وعازف مجوز وراقصاً، وهو ما يعكس اهتمام هذه الحضارات بالموسيقى والرقص كجزء مهم من النشاطات الإنسانية.
تتعدد المواقع الأثرية القديمة في سورية، لكنها تعكس في آثارها اهتمام الحضارات السورية بالموسيقى والغناء. وقد امتد ذلك إلى ما تبعها من حضارات استوطنت المنطقة وتركت بصمتها الموسيقية في التراث الموسيقي الضخم لهذه البلاد.
وقد عرف العرب في ديار الشام الموسيقى والغناء والآلات الموسيقية في جاهليتهم، وتأثروا بموسيقى الحضارات التي سبقتهم كالحضارة المصرية والآشورية واليونانية والفارسية، كما أنهم أخذوا من الموسيقى الفارسية واليونانية والبيزنطية ما يلائم موسيقاهم وغناءهم النابع من بيئتهم وأسلوب حياتهم. وقد استخدموا العديد من الآلات الموسيقية: العود، والمزهر، والمزمار، والطنبور، والصنوج الصغيرة، والمربع، والدف والطبل.
أمّا في بداية العهد الإسلامي في البلاد وفي العهد الراشدي، فقد تراجعت صناعة الموسيقى، مع بقاء بعض الحالات الفردية. لتعود إلى الازدهار غير العلني خلال العصر الأموي، حيث انتشرت الموسيقى الفارسية المطعمة بالألحان الرومية. وكان الخلفاء الأمويون يكرّمون كبار الموسيقيين ويؤيدونهم سراً لخوفهم من توجيه التهم إليهم بعدم التدين. أما في العصر العباسي، فازدهرت الموسيقى العربية بشكل ملحوظ لتعود إلى الانحطاط والضحالة في عهد السلاجقة والمماليك.
كان للاحتلال العثماني لبلاد الشام أثر كبير في تغيير نمط الموسيقى وصبغها بالطابع التركي، مما ساعد في ضياع معالم الموسيقا العربية الأصيلة. لكنها عادت إلى الظهور في القرن التاسع عشر حيث بدأ فن الموشحات العريق بالانتشار، إضافة إلى فنون جديدة كالسماح والفنون الصوفية.
لكن ضغط المجتمع المحافظ دفع العديد من الموسيقيين والفنانين إلى الهجرة من سورية باتجاه مصر، التي شهدت غزواً مركّزاً من الفنانين والموسيقيين السوريين. منذ بداية القرن العشرين، عادت سورية لتشهد نهضة موسيقية حقيقية بفضل النوادي الموسيقية المهمة التي أُنشأت في تلك الفترة. ثم تلاها على مرّ السنوات إنشاء معاهد موسيقية كان لبعضها أثر كبير في إعادة إحياء الموسيقى والتراث السوري الأصيل.
لكن حكم آل الأسد لسورية، وما رافقه من انهيار اقتصادي واجتماعي وثقافي، انعكس على الحياة الموسيقية السورية، شأنها شأن كل النواحي، وأدّى إلى إهمالها وتدهورها نتيجة للفساد المنتشر في كل مفاصل الدولة ومؤسساتها، حتى المختصة بالثقافة والفنون، والإهمال المتعمّد لكلّ المجالات الإبداعية الفنية وتحويلها إلى قطاعات ثانوية، مما تسبب في هجرة الموسيقيين السوريين إلى بلدان تحترم إبداعهم، خاصةً بعد اندلاع الثورة السورية وقمع النظام لكل المظاهر المدنية، التي كانت تتمثل بمظاهرات كان أجمل ما فيها تلك الأغاني والرقصات الشعبية.
إضافةً إلى ملاحقة الموسيقيين والمغنين الذين وقفوا مع الثورة. ولم تسلم كذلك من قذائفه وصواريخه تلك المواقع الأثرية التي تشكل تاريخ سورية وماضيها العريق الذي قد يخسره السوريون اليوم إلى الأبد إذا ما استمر النظام السوري، بأذرعه المختلفة، بتهديمه.
لكن ما لا يقلّ أهمية عن ذلك كله، كان الرقم الحامل لأقدم نوتة موسيقية تامة في التاريخ البشري، والتي كانت مدونة على 36 لوحة تم اكتشافها عام 1957 ويعود تاريخها إلى 3500 قبل الميلاد، ليستطيع أحد أبناء اللاذقية، العالم راؤول فيتالي، فك رموزها، وتحويل النوتة المكتوبة على الرقيم رقم H-6 إلى نوتة موسيقية واضحة عزفها الموسيقي زياد عجان على البيانو، بإصبع واحد، في حفل اليوبيل الذهبي لاكتشاف أوغاريت في اللاذقية عام 1979.
تعكس التماثيل والنصوص المسمارية المكتشفة في مملكة أوغاريت الحياة الموسيقية التي ازدهرت في تلك المملكة، حيث تشير إلى استخدام العديد من الآلات الموسيقية كالناي والقيثارة والطبل والكنارة أو الرباب، والصنج والمصافق العاجية والخشبية، وهي قطع صغيرة مجوفة أسطوانية الشكل تربط في الأصابع وتقرع الواحدة بالأخرى.
أمّا مملكة ماري، المعروفة باسم تلّ الحريري حالياً، والتي اكتشفها بدو الجزيرة السورية بالقرب من مدينة البوكمال بالصدفة أيضاً عام 1932، فلم تكن أقلّ شأناً من أوغاريت، وكانت مملكة قوية وغنية بكل أشكال الحياة.
تُعتبر آثار ماري أغنى مصدر كتابي مؤرّخ للموسيقى في عصر البرونز، حيت تضمّ رقماً وكتابات جدارية تتحدث عن الموسيقى والهيكل التنظيمي للموسيقيين في القصر الملكي وكيفية اختيار العازفين والمغنين وكذلك أوضاع الموسيقيين المعيشية. ولعل "أورنينا" عازفة ومغنية المعبد ما زالت الرمز الأجمل لحضارة ماري التي تعكس عمق تأثير الموسيقى في حياة الإنسان. وسيبقى اسمها رمزاً لهذا الفن المولود في سورية والمرافق لحضارة الإنسان أينما حلّ.
عزفت ماري الآلات الموسيقية الوترية والإيقاعية والهوائية، كآلة القيثارة ذات الأوتار التسعة وآلة القيثارة المصنوعة من خشب الصندل المغطى بالذهب، وصندوقها الصوتي المصنوع من الجلد، وآلة الهارب.
كما ذكر الأرشيف الملكي أنواع الآلات الموسيقية ومواد صناعتها وتأثير نوع كل مادة على صوت النغم الموسيقي، مثل صناعة الناي من خشب الأبنوس المفضل على خشب التنوب، وصناعة القيثارة من الجلد بعد نقعه في اللبن والحليب والقطران، ثم تلوينها، وكيفية معالجة جلد البقر لصنع الطبول.
وقد عُثر في موقع جرابلس الأثري، في شمال سورية على الحدود التركية السورية وهو موقع مدينة كركميش التي تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، عُثر على منحوتة تمثّل عازف عود وعازف مجوز وراقصاً، وهو ما يعكس اهتمام هذه الحضارات بالموسيقى والرقص كجزء مهم من النشاطات الإنسانية.
تتعدد المواقع الأثرية القديمة في سورية، لكنها تعكس في آثارها اهتمام الحضارات السورية بالموسيقى والغناء. وقد امتد ذلك إلى ما تبعها من حضارات استوطنت المنطقة وتركت بصمتها الموسيقية في التراث الموسيقي الضخم لهذه البلاد.
وقد عرف العرب في ديار الشام الموسيقى والغناء والآلات الموسيقية في جاهليتهم، وتأثروا بموسيقى الحضارات التي سبقتهم كالحضارة المصرية والآشورية واليونانية والفارسية، كما أنهم أخذوا من الموسيقى الفارسية واليونانية والبيزنطية ما يلائم موسيقاهم وغناءهم النابع من بيئتهم وأسلوب حياتهم. وقد استخدموا العديد من الآلات الموسيقية: العود، والمزهر، والمزمار، والطنبور، والصنوج الصغيرة، والمربع، والدف والطبل.
أمّا في بداية العهد الإسلامي في البلاد وفي العهد الراشدي، فقد تراجعت صناعة الموسيقى، مع بقاء بعض الحالات الفردية. لتعود إلى الازدهار غير العلني خلال العصر الأموي، حيث انتشرت الموسيقى الفارسية المطعمة بالألحان الرومية. وكان الخلفاء الأمويون يكرّمون كبار الموسيقيين ويؤيدونهم سراً لخوفهم من توجيه التهم إليهم بعدم التدين. أما في العصر العباسي، فازدهرت الموسيقى العربية بشكل ملحوظ لتعود إلى الانحطاط والضحالة في عهد السلاجقة والمماليك.
كان للاحتلال العثماني لبلاد الشام أثر كبير في تغيير نمط الموسيقى وصبغها بالطابع التركي، مما ساعد في ضياع معالم الموسيقا العربية الأصيلة. لكنها عادت إلى الظهور في القرن التاسع عشر حيث بدأ فن الموشحات العريق بالانتشار، إضافة إلى فنون جديدة كالسماح والفنون الصوفية.
لكن ضغط المجتمع المحافظ دفع العديد من الموسيقيين والفنانين إلى الهجرة من سورية باتجاه مصر، التي شهدت غزواً مركّزاً من الفنانين والموسيقيين السوريين. منذ بداية القرن العشرين، عادت سورية لتشهد نهضة موسيقية حقيقية بفضل النوادي الموسيقية المهمة التي أُنشأت في تلك الفترة. ثم تلاها على مرّ السنوات إنشاء معاهد موسيقية كان لبعضها أثر كبير في إعادة إحياء الموسيقى والتراث السوري الأصيل.
لكن حكم آل الأسد لسورية، وما رافقه من انهيار اقتصادي واجتماعي وثقافي، انعكس على الحياة الموسيقية السورية، شأنها شأن كل النواحي، وأدّى إلى إهمالها وتدهورها نتيجة للفساد المنتشر في كل مفاصل الدولة ومؤسساتها، حتى المختصة بالثقافة والفنون، والإهمال المتعمّد لكلّ المجالات الإبداعية الفنية وتحويلها إلى قطاعات ثانوية، مما تسبب في هجرة الموسيقيين السوريين إلى بلدان تحترم إبداعهم، خاصةً بعد اندلاع الثورة السورية وقمع النظام لكل المظاهر المدنية، التي كانت تتمثل بمظاهرات كان أجمل ما فيها تلك الأغاني والرقصات الشعبية.
إضافةً إلى ملاحقة الموسيقيين والمغنين الذين وقفوا مع الثورة. ولم تسلم كذلك من قذائفه وصواريخه تلك المواقع الأثرية التي تشكل تاريخ سورية وماضيها العريق الذي قد يخسره السوريون اليوم إلى الأبد إذا ما استمر النظام السوري، بأذرعه المختلفة، بتهديمه.