الفلسطينيون.. مئة عام في دوامة البحث عن حلّ

24 اغسطس 2014

شاب فلسطيني يتصدى لمدرعات الاحتلال بالحجارة (7 ديسمبر/2001/Getty)

+ الخط -

منذ الإعلان عن وعد بلفور، بدأ الفلسطينيون رحلة طويلة ودامية، أوشكت أن تبلغ المئة عام، بحثاً عن حل للقضية التي افتعلتها بريطانيا، بالتعاون مع الحركة الصهيونية، وبمصادقة من عصبة الأمم لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، على حساب وجود الفلسطينيين، وحقوقهم فيها. وبعد حربٍ قادت إلى خروج الفلسطينيين لاجئين من معظم فلسطين إلى دول الجوار عام 1948، قبلت الأمم المتحدة إسرائيل عضواً فيها من دون أن تمنح الفلسطينيين عضويةً مماثلة، استناداً لما نص عليه قرار تقسيم فلسطين الذي استندت إليه إسرائيل عند الإعلان عن تأسيسها، واستندت إليه الأمم المتحدة عند قبولها عضوية إسرائيل.

اليوم، وبعد مضيّ نحو قرن على نشأة القضية الفلسطينية، وبعدما سلك الفلسطينيون كل الطرق، وعبروا كل المعابر والمنافذ، بحثاً عن حل شامل يعيد إليهم كامل حقوقهم، أو عن حل جزئي يعيد إليهم بعض تلك الحقوق، يجد الفلسطينيون أنفسهم أنهم لا يزالون في الدوامة ذاتها، دوامة البحث عن حلٍّ عادلٍ لقضيتهم، بعضها أو كلها، ولكن من دون جدوى، على الرغم من أنهم دفعوا أثماناً باهظة، وتنازلوا كثيراً، ولم يعودوا يفارقون عتبات وأروقة ومدارج الأمم المتحدة والعواصم الكبرى من أجل الوصول إليه.

منذ الإعلان عن اتفاقات سايكس ـ بيكو ووعد بلفور وبدء الانتداب البريطاني والهجرة والاستيطان الصهيوني في فلسطين، رفض الفلسطينيون ذلك كله، وأدركوا مبكراً أن لا قدرة ذاتية لهم على مقاومته وإفشاله، أو الانتصار عليه. لذلك، كان التطلّع إلى العرب على أمل المساعدة مع شحذ الهمم الذاتية للمقاومة بكل أشكالها، ما فرض على البريطانيين وضع مشاريع وخطط لتقسيم فلسطين، وصولاً إلى إقرار ذلك في الجمعية العامة للأمم المتحدة في القرار 181. ولم يكن في وسع الفلسطينيين والعرب القبول بالتقسيم والتنازل عن حقهم في أرض وطنهم، فكان رهانهم على العرب، من أجل منع إقامة إسرائيل، إلا أنهم سرعان ما خذلوا عندما انتصرت العصابات الصهيونية المدعومة من بريطانيا على الجيوش العربية، ما قاد إلى نكبة 1948 وخروج الفلسطينيين من معظم فلسطين، لاجئين إلى الدول العربية المجاورة، على أمل العودة إليها قريباً، وهو أملٌ لا يزال بعيداً وبعيداً جداً.

نكبة 1948 وإعادة تشكيل الذات الفلسطينية

بعد النكبة، وتشتّت قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية، وإفشال تجربة حكومة عموم فلسطين، وضم الضفة الغربية إلى الأردن، ومع انشغال العرب في دول الجوار بالتطورات الداخلية (الانقلابات المتتالية في سورية، واغتيال الملك عبد الله في الأردن وتنحية ابنه الملك طلال ومجيء الملك حسين، والثورة المصرية)، استكان الفلسطينيون مع تمسكهم بهدف تحرير فلسطين، والعودة إليها، بوصفه الحل الوحيد المقبول، مع استمرار رهانهم على العرب للقيام بذلك، ومشاركتهم الطليعية فيه. ولم يتخلَّ الفلسطينيون والعرب عن هدف التحرير، طوال نحو عقدين، ربما لعدم وجود أي مسعى، أو طرح دولي، للوصول إلى أي حل للقضية الفلسطينية، استناداً إلى القرارين 181 و194 المتضمنين تقسيم فلسطين وحق العودة للاجئين الفلسطينيين (خصوصاً بعدما أفشلت إسرائيل والولايات المتحدة مساعي لجنة التوفيق الدولية على هذا الصعيد في أوائل الخمسينات).

كان الإيمان بحتمية تحرير فلسطين، وبالقدرة على ذلك، بوصفه الحل الأمثل، كبيراً جداً بين الفلسطينيين والعرب، خصوصاً بعد حصول دول عربية عديدة على استقلالها، وبعد الثورات في مصر والعراق وسورية واليمن، وبدء انعقاد القمم العربية وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، لتنظيم قوى الشعب الفلسطيني وتأطيرها وتعبئتها، وزجّها في معركة التحرير متى أزف موعدها، وانطلاق الثورة الفلسطينية المسلحة، على أمل أن تكون، كما الثورة الجزائرية.

وعلى الرغم من الهزيمة العربية الكبرى عام 1967، والتي فاقت هزيمة 1948، عندما تمكنت إسرائيل من هزيمة الجيوش المصرية والأردنية والسورية تباعاً، ومن احتلال مساحات من الأراضي تعادل أربعة أضعاف المساحة التي قامت عليها عام 1948، لم يستسلم الفلسطينيون، ولم يحيدوا عن هدف أو حل التحرير الكامل لفلسطين، إذ استمروا متمسكين به، على الرغم من الهزيمة الساحقة، وخسارة الضفة والقطاع، ظناً منهم أن الكفاح المسلح والحرب الشعبية وشعارات (ما أُخذ بالقوة لا يستردّ إلا بالقوة) ولاءات الخرطوم (لا تفاوض ولا اعتراف ولا صلح)، تشكل منطلقاً قوياً للاستمرار في المعركة، وصولاً إلى تحرير فلسطين.

من لاءات الخرطوم إلى مبادرة السلام

بُعيد 1967 بقليل، بدأ الفلسطينيون بالحديث عمّا هو أبعد من تحرير فلسطين، وذلك عندما بدأوا الحديث عن جعل فلسطين دولة ديمقراطية، يعيش فيها العرب واليهود معاً. وهو ما عُرف لاحقاً باسم حل الدولة الواحدة، والذي رفضته إسرائيل والقوى الدولية المؤيدة لها، وهو أيضاً الحل الذي سرعان ما تراجعت عن طرحه منظمة التحرير الفلسطينية، بعد حرب 1973 عندما أدرك الفلسطينيون والعرب أن الانتصار على إسرائيل وتحرير فلسطين أمر غير ممكن وفوق طاقتهم، وأن الممكن الوحيد هو التراجع عن لاءات الخرطوم وخيار الحرب، وبدء مسيرة التفاوض، والصلح الذي تجلّى، إثر ذلك، في اتفاقات فصل القوات المصرية والسورية، وإقرار القمة العربية في الرباط التراجع عن هدف تحرير فلسطين، وتقديم مبادرة للسلام، سعياً من أجل استعادة ما احتلته إسرائيل عام 1967 بالتفاوض، ومن ثم إقرار منظمة التحرير الفلسطينية ما عُرف بالبرنامج المرحلي عام 1974 المتضمن القبول، أو السعي إلى حل إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، إلى جانب دولة إسرائيل، وهو ما عرف بالحل والهدف المرحلي، مع السعي إلى حل قضية اللاجئين الفلسطينيين، حسب ما نص عليه القرار 194.

أنور السادات وغولدا مائير

وقد عُرف هذا الحل باسم حل الدولتين (دولة إسرائيلية في الحدود التي قامت عليها عام 1948 ودولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة في حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967)، وهو الحل المنشود فلسطينياً وعربياً ودولياً منذ أربعين عاماً، ولكن من دون طائل، على الرغم ممّا قدمه الفلسطينيون على الطريق من أجل الوصول إليه عبر محطات مفصلية كفاحية عديدة، كان أبرزها الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، والمشاركة في مؤتمر مدريد 1991، ثم التوقيع على اتفاقات أوسلو 1993، بما فيها الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير وإسرائيل، ومن ثم إلغاء عدد كبير من بنود الميثاق الوطني الفلسطيني وتعديل أخرى، خصوصاً الداعية إلى تحرير فلسطين، والمتعلقة بحل الدولة الواحدة، ومن ثم إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية، وانطلاق الانتفاضة

الفلسطينية الثانية، وانسحابات إسرائيل من بعض مناطق الضفة والقطاع، ثم سحبها قواتها ومستوطنيها من كل قطاع غزة.

ما بعد بعد أوسلو..

عند التوقيع على اتفاق أوسلو، اعتقدت قيادة منظمة التحرير والسلطة والفصائل الفلسطينية أن حل الدولتين أصبح قريباً جداً، وسيتم تحقيقه في غضون سنوات، قد لا تتعدى السنوات الخمس، إلا أن إسرائيل انقلبت على ذلك كله، بعد اغتيال رئيس حكومتها، إسحق رابين، الذي وقّع اتفاق أوسلو، وشنّت حرباً مؤلمة ومدمرة على السلطة الساعية إلى حل الدولتين، ووصلت، لاحقاً، إلى حد تسميم الرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات، الذي وقّع ذلك الاتفاق. ودفعت إسرائيل المفاوضات بشأن حل الدولتين إلى نفق مظلم، ودوامة لا مخارج لها، ولم تنجح كل المبادرات الفلسطينية والعربية والدولية، سواء كانت عبر الأمم المتحدة، أو اللجنة الرباعية الدولية، أو عبر الوسطاء الأميركيين، في زحزحة إسرائيل عن موقفها، خصوصاً بعدما تشجعت إسرائيل في المماطلة أكثر، إثر الانقلاب الذي قامت به حركة حماس في قطاع غزة عام 2007، معلنة، (أي حماس)، رفضها نهج السلطة الفلسطينية ونهج أوسلو، وعدم قبولها المسبق لحل الدولتين، إيماناً منها بالكفاح والمقاومة حتى تحرير فلسطين.

اتخذت إسرائيل من انقلاب حماس ذريعةً لتجميد المفاوضات مع السلطة، وإغلاق كل الطرق المؤدية إلى حل الدولتين، وفي الوقت نفسه، أظهرت معارضتها أي تقارب، أو تصالح بين حماس والسلطة.

ويؤكد إغلاق إسرائيل كل الطرق إلى حل الدولتين حقيقة أن إسرائيل التي أسقطت حل الدولة الواحدة، وأجبرت الفلسطينيين والعرب على إسقاطه، تراهن وتعمل على إسقاط حل الدولتين، وعلى إجبار الفلسطينيين على العزوف عنه، وتركه والبحث عن حل آخر غيره.

 ياسر عرفات في قمة الرباط 1974

وهذا ما دفع فلسطينيين كثيرين إلى الدعوة والدفع نحو تخلي السلطة ومنظمة التحرير عن حل الدولتين، والعودة إلى المناداة، والسعي والعمل من أجل حل الدولة الواحدة، وقد كتب الكثير عن هذا الأمر في السنوات الأخيرة، لكنه لم يحرك ساكناً لدى القيادة الفلسطينية التي تصرّ على الاستمرار في الرهان على التحرك والسير نحو حل الدولتين، مهما فعلت إسرائيل، مدركةً أو مؤمنةً أن هذا الحل هو المقبول والمدعوم عربياً ودولياً، وأن الدعوة إلى العودة إلى حل الدولة الواحدة مجرد تعبير عن نَزَق وتأفّف، وأن الفشل في الوصول إلى حل الدولتين لا يعني القدرة على النجاح في حل الدولة الواحدة الذي سبق أن فشلنا فيه.

التطبيع.. ترك الفلسطيني وحيداً

تدرك إسرائيل أن لا خيارات كثيرة أمام الفلسطينيين للخروج من دوامة البحث عن حل، أو فرض الحل الذي يريدون، وأن الاستمرار في إغلاق الطريق أمام حل الدولة الواحدة، وأمام حل الدولتين، مع الاستمرار في الضغط الشامل على الفلسطينيين، على كل الصعد، والاستمرار في إضعاف قدراتهم، وقدرات حلفائهم العرب والدوليين، سيدفع بهم لاحقاً إلى القبول بما هو أقل من حل الدولتين، مثل الحل الذي سبق، وأن ما طرحته في أثناء مفاوضات كامب ديفيد مع مصر (حكم ذاتي يشمل السكان من دون الأرض)، أو حكم ذاتي يشمل السكان والأرض (كما طرح أنور السادات)، أو ما كان يوصف بالخيار الأردني في الضفة (والخيار المصري في القطاع)، أو إنشاء سلطتين أشبه بدولتين تحت سقف الاحتلال في الضفة وفي القطاع، أو ما شابه ذلك من حلول، أو ترك الفلسطينيين وقضيتهم بدون أي حل (في حالة تآكل وضعف دائمين) عقوداً قادمة، طالما استمر ضعفهم وضعف العرب.

ويبدو واضحاً أن الفلسطينيين يزدادون ضعفاً، كما حال أشقائهم العرب، وفي المقابل، تزداد قوة إسرائيل وقدرتها، من دون أن تجد رادعاً يجبرها على فتح الطريق أمام حل عادل للقضية الفلسطينية.

لقد سبق أن ضيّع الفلسطينيون فرصاً أفضل للحل، حل الدولتين، كانت فيها أوضاعهم وأوضاع الأشقاء العرب والأصدقاء أفضل، ولم يستطيعوا فرض الحل، وما زالوا في الدوامة ذاتها بحثاً عن حل، إنْ وجدوه أو ساروا نحوه لا يستطيعون الوصول إليه. وقد أمضوا مئة عام في الدوامة، وربما يستمرون فيها عقوداً أخرى، طالما لم يمتلكوا الرؤية والقدرة على فرض الحل.