الفلسطينيون في العراق: رابع تهجير للمهجَّر

07 اغسطس 2015
كان يعيش نحو أربعين ألف فلسطيني في العراق (الأناضول)
+ الخط -
نقش الحاج سعد مصباح، فلسطيني، على جدار منزل في حي قديم في منطقة الفحامة، وسط بغداد (أنا فلسطيني.. أعدكم أني وأحفادي سنعود يوماً إلى الديار كما الطيور المهاجرة). إلّا أن الحظ لم يسعف سعد مصباح الفلسطيني (كما هي شهرته في بغداد) في أن يفي بوعده للمليشيات التي هددته وجيرانه الفلسطينيين بالقتل في حال لم يغادروا بغداد في العام 2006، إذ توفي ودفن فيها بعد نحو عام. لكن عبارته تلك، ظلّت محفورة على جدار بيته لغاية اليوم. تحكي هذه العبارة وجع عشرات الآلاف من الفلسطينيين في العراق وهجرتهم القسرية في مهجرهم، عقب احتلال البلاد عام 2003 وانتشار العنف الطائفي الذي وجدوا أنفسهم في دوامته من دون اختيار.


ويبدو أن تهديدات المليشيات لفلسطينيي بغداد تحديداً تأخذ طريقها للتنفيذ، مع خطف عناصر مليشيا مسلحة يرتدون زي قوات الأمن ويستقلّون عجلات رباعية الدفع، عشرة رجال فلسطينيين في مجمع البلديات السكني شرقي بغداد، الذي يضم عشرات الأسر الفلسطينية المقيمة في العراق منذ ستينات القرن الماضي، فضلاً عن سرقة حلي ذهبية ومواد ثمينة ومبالغ نقدية والاعتداء على النساء، وذلك على مرأى من قوات الأمن العراقية ممثلة باللواء الثاني من قوات الشرطة الاتحادية المكلفة بحماية المنطقة.

قبل احتلال العراق عام 2003، كان يعيش فيه نحو أربعين ألف فلسطيني، تمركزوا في بغداد والموصل والبصرة. أقاموا في العراق منذ ستينات القرن الماضي، وسمح لهم نظام الرئيس الراحل صدام حسين بالعمل في الوظائف الحكومية الرسمية والتملك، ومنحهم معاملة قانونية لا تختلف عن المواطن العراقي. إلّا أنّ الوضع لم يبق على حاله، إذ ألغى الحاكم المدني في العراق بول بريمر مطلع عام 2004 بقرار حمل رقم 50 جميع الامتيازات الممنوحة للفلسطينيين من قبل مجلس قيادة الثورة العراقي المنحل عقب حرب العراق بأيام، ونزع صفة المقيم الدائم إلى لاجئ.

وكان القرار من بين أوّل 50 قراراً اتخذه بريمر بعد تسلمه حكم البلاد، وفقاً لرئيس دائرة العلاقات الخارجية في مجلس الحكم في العراق المنحل، الدكتور ملاذ الحسني. ويوضح الحسني لـ"العربي الجديد" أنّ "هذا القرار كان بداية استهداف منظّم للفلسطينيين في العراق، ولم يعترض عليه أحد على الرغم من أن مجلس الحكم آنذاك كان قد منحه الأميركيون صلاحية الاعتراض والرأي في القضايا المختلفة لمساعدة بريمر على إدارة البلاد، إلّا أنّهم لم يعترضوا وكانوا يسعون لنيل رضا بريمر بأي شكل وخصوصاً الأحزاب الإسلامية وقادتها".

ويضيف الحسني أنّ "استهداف الفلسطينيين بدأ منذ اليوم الأول لاحتلال العراق، وكان سبب بداية مأساتهم أو ما يعرف في ما بينهم بـ67 العراق، في إشارة إلى العام 1967 واحتلال العصابات الإسرائيلية للمدن الفلسطينية وتهجير أهلها"، مبيّناً أن "الأمم المتحدة والدول الغربية التي شاركت في التحالف الدولي بقيادة واشنطن لاحتلال العراق، سكتوا عن مجازر حقيقية في بغداد والبصرة والموصل، واتخذت قرارات سياسية بحق الفلسطينيين والمليشيات بدوافع طائفية وعنصرية أو من خلال عمليات إرهابية نفّذتها جماعات مسلحة مرتبطة بتنظيم القاعدة. فيما هاجر الآلاف منهم بعد رحلة وجع طويلة علقوا خلالها أشهر طويلة على الحدود في صحراء الأنبار".

عملية التهجير هذه، أدّت إلى انحسار أعدادهم من 42 ألف فلسطيني قبيل الاحتلال الأميركي إلى 7 آلاف يعيشون حالياً في ظروف صعبة بعد استيلاء حكومة نوري المالكي السابقة على منازلهم (مجمعات كبيرة خصصت لهم منذ سبعينات القرن الماضي) في بغداد والبصرة، فضلاً عن طردهم من وظائفهم الحكومية، وحرمان المتقاعدين منهم، ممن خدم في الدولة العراقية السابقة، مرتباتهم الشهرية، وتقيم غالبيتهم حالياً في مخيمات أو منازل قديمة على نفقتهم أو في منازل عراقيين مهاجرين، فضّلوا أن يسكنها الفلسطينيون عوضاً عن غيرهم.

اقرأ أيضاً: اللاجئون الفلسطينيون والعقاب الجماعي

وقع الاعتداء الأول على الفلسطينيين منتصف العام 2003، بعد سقوط بغداد بأسابيع قليلة. هاجم جنود أميركيون يتبعون لوحدة المشاة 68 في المارينز، مبنى السفارة الفلسطينية في بغداد وحطموا أبوابها وصادروا وثائق ومعلومات فيها، فضلاً عن اعتقال ستة موظفين فلسطينيين بينهم دبلوماسي، وأطلق سراحهم جميعاً بعد نحو عام.

في سبتمبر/أيلول من العام نفسه، طاول قصف أميركي أكبر المجمعات السكنية للفلسطينيين في حي البلديات شرقي بغداد، أسفر عن مقتل وجرح 57 فلسطينياً. وفي ديسمبر/كانون الأول، اعتقلت القوات الأميركية الأمين العام في جبهة التحرير الفلسطينية، محمد أبو العباس من منزله في بغداد، وظل في سجن أبو غريب من دون أن توجه له أي تهمة، حتى توفي داخله بعد نحو عامين. في نهاية العام 2003، قتل كل من الفلسطينيين، الدكتور حسام أحمد والشيخ إبراهيم الحانوتي. تبنّت خلالها مليشيا "بدر" العمليتين تحت مزاعم أنهما بعثيان من أعوان صدام، على الرغم من أن الأول أستاذ جامعي وطبيب والثاني رجل دين في مسجد غربي بغداد.

وعقب الفتنة الطائفية التي اندلعت في العراق عام 2006 وما تلاها من أحداث، وجد الفلسطينيون أنفسهم في دوامة عنف كبيرة لا يملكون أي وسيلة دفاع، ولا مكان لهم للفرار سوى البقاء منتظرين الموت. وتقدر منظمات محلية عراقية مقتل 500 فلسطيني في جرائم عنف طائفي على يد مليشيا "بدر" و"المهدي" و"العصائب" في بغداد وحدها. انتهت بمصادرة المليشيات نادي حيفا الرياضي واعتقلت رئيسها ولاعبين آخرين، وسيطرت على الهلال الأحمر الفلسطيني ومركز ثقافي باسم (الوطن فلسطين).

نفّذ الفلسطينيون أول تظاهرة لهم في بغداد للمطالبة بالكف عن زجهم في الصراع الطائفي أو إيجاد دولة ثانية تستقبلهم، إلّا أن التظاهرة لم تستمر أكثر من نصف ساعة، سرعان ما قامت قوات، كانت تعرف آنذاك بـ"لواء الذئب" بإطلاق النار عليها وقتل عدد من المتظاهرين.

وفي العام نفسه، أظهر تلفزيون "العراقية" الحكومي صوراً لثلاثة شبان فلسطينيين، قال إنهم نفذوا جرائم قتل طائفية بحق شباب شيعة، لتبدأ مرحلة الشعارات المناوئة للفلسطينيين في العراق. رفع حزب "الدعوة الإسلامية" بزعامة المالكي شعارات على مناطق متفرقة من بغداد تلتها شعارات أخرى لمليشيات عدة، مثل (فلسطيني إرهابي) و(العراق للعراقيين) و(اطردوا قاتلي شعبنا). استمر الوضع على حاله إلى حين الهجرة الجماعية للفلسطينيين من العراق. خرج الفلسطينيون من بغداد وسط تكتّم إعلامي كبير، متجهين إلى سورية والأردن أملاً بالفرار من العراق بعد أسابيع رعب قضوها على يد القوات الأميركية والمليشيات الممولة إيرانياً، إذ صودرت منازلهم وسرقت آثاثها كمرحلة أخيرة سبقت مرحلة القتل والاعتقال والتهديد.

بدأت رحلة جديدة من التهجير، لكن ليس على يد الاحتلال الإسرائيلي، بل على يد المليشيات المسلحة. توزّع آلاف الفلسطينيين على مخيمات الرويشد والوليد على الحدود الأردنية والتنف والهول على الحدود السورية. ومكثوا في خيام وفّرتها الأمم المتحدة لهم بعد أربعة أسابيع من انتظار موافقة السلطات السورية والأردنية على استقبالهم وإدخالهم أراضيها، إلّا أن ذلك لم يحدث إلى حين موافقة كل من كندا والبرازيل على استقبال ساكني مخيم الرويشد وموافقة فرنسا والسويد والنرويج وبريطانيا وبلجيكيا وتشيلي وفنلندا على استقبال نازحي مخيم التنف. وبقي مخيم الوليد في المنطقة الغربية من العراق ومخيم الهول في المنطقة الشمالية من سورية من دون كفيل حتى وصول "تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش) الذي ألغى بدوره الحدود بين العراق وسورية، ونقل المقيمين في المخيم إلى ما يصفه بـ"ولايات الخلافة الإسلامية".

اقرأ أيضاً: عام على حرب غزة وجراح مُصابيها لم تندمل

وبحسب الناشط الفلسطيني في العراق، عبد الله خليل، "هناك نحو 600 فلسطيني قتلوا بعد الاحتلال، بينهم 530 على يد المليشيات المسلحة، والآخرون على يد القوات الأميركية والبريطانية في البصرة وجنوب العراق، فيما اعتقل منهم نحو ألف آخرين على يد القوات الأميركية، بقي منهم 25 يقبعون في سجون الحكومة العراقية من دون أن توجه لهم أي تهم منذ العام 2005 لغاية اليوم"، مضيفاً في حديثه لـ"العربي الجديد"، أنّ 11 سجيناً منهم محكومون بالإعدام وبجرائم لم يرتكبوها، وإنما انتزعت منهم تحت التعذيب، وهناك 5 آخرون معتقلون لدى مليشيات "عصائب الحق". ويشير خليل إلى أنّ إجمالي عدد الفلسطينيين في العراق اليوم، لا يتجاوز سبعة آلاف، حتى أنّ هذا العدد انخفض تدريجياً بسبب استهداف مليشيات "الحشد الشعبي" لهم اليوم.

يمرّ اللاجئون الفلسطينيون في العراق بوضع معيشي صعب، لقلة توفر فرص العمل وعدم السماح للاجئ الفلسطيني بالعمل وخصوصاً جيل الشباب، فضلاً عن عدم التفات المنظمات الإنسانية العربية والعالمية لهم، إذ يعمل أغلبيتهم في الحرف العامة والتجارة البسيطة، وعلى الرغم من ذلك يتعرضون لمضايقات المليشيات وبشكل متزايد.

 كما لم يسلم الفلسطينيون من إرهاب "داعش"، إذ أدّت سيطرة التنظيم أخيراً على مدن عراقية عدة إلى فرار العشرات منهم، واستقروا على الحدود التركية من ناحية إقليم كردستان. ويتعذر وصول الإعلاميين إليهم بسبب بُعد المسافة، ويحظون برعاية العشائر الكردية. فيما يوجد نحو خمسين عائلة في وسط أربيل داخل مخيم للنزوح، إلّا أنّهم لا يحصلون على مساعدات مثل النازحين العراقيين، بسبب عدم امتلاكهم أوراقا ثبوتية، وهي تعقيدات تفرضها حكومة بغداد عند توزيع أي مساعدات على النازحين.

ويقول عميد الفلسطينيين في العراق، أو كما يعرف بـ"العم أحمد الحسن" لـ"العربي الجديد"، إنّ "معظم الفلسطينيين في العراق هم من قرى حيفا والقدس. هاجر الجيل الأول منهم، كما أنا وأهلي، عقب حرب 1948 وتحديداً من قرى أجزم وجبع وعين غزال في حيفا، وبلغ عددنا ستة آلاف فلسطيني، لتتواصل الهجرة حتى نهاية الستينات، وكنا نعتبر أنفسنا كأننا في وطننا".

ويضيف العم الحسن، "نعيش حالياً، حياة سيئة، ولو كان بإمكاننا ترك العراق والرحيل إلى دولة أخرى لفعلنا، حماية لكرامتنا وأولادنا الذين ولدوا في العراق. فالمليشيات من جهة، والإرهاب من جهة أخرى، وطائفية الحكومات، جعلت حالتنا صعبة، كما أنّ المنظمات والهيئات نسيتنا في ظلّ أعداد النازحين السوريين والعراقيين في هذه الفترة".

اقرأ أيضاً: 67 عاماً على تعميق النكبة: إسرائيل تعود لجذورها الاستعمارية