يطلّ المخرج الفرنسي جاك أوديار (1952)، كلّ 3 أعوام، بفيلم يقلب به الحسابات، ويُربك التوقّعات. يجيد، ببراعة واحترافية، تغيير جلده بين فيلم وآخر. يتنقّل بين أفلام اجتماعية وسياسية وإنسانية وتشويقية برشاقة وخفّة لاعب "أكروبات" ماهر. يؤكّد ما أنجزه في أفلامه الـ3 السابقة: "نبي" (2009) و"صدأ وعظام" (2012) و"ديبان" (2015). هذا حاضرٌ في جديده "الأخوان سيسترز" (2018)، الفائز بجائزة أفضل إخراج في الدورة الـ75 (29 أغسطس/آب ـ 8 سبتمبر/أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي".
يصعب على جوائز المهرجانات الكبرى ألا تعرف طريقها إلى أفلام جاك أدويار، المتضمّنة مواضيع إنسانية، والمكتسبة معه صبغة معاصرة، وإن اتّخذت الـ"وسترن" شكلاً لها. نظرة سريعة على جوائزه السابقة تؤكّد هذا. لكن ـ بعيدًا عن الجوائز والمواضيع التي يكتبها عادة، وببراعة، مع شريكه توماس بيدغن ـ هناك رغبة في تجريب كلّ جديد، والانتقال من نوع سينمائي إلى آخر مع كلّ فيلم، رغم ما يتطلّبه هذا من معالجة سينمائية وتناول بصري يختلفان من تجربة إلى أخرى.
التعامل مع عيّنات شتّى من الممثلين من الأمور الملحوظة بشدّة في سينما جاك أوديار: محترفون أو غير محترفين، عربٌ وآسيويون وأميركيون وفرنسيون، وغيرهم. إلى الملامح القليلة المشتركة، التي يُمكن رصدها في سينماه، لا يوجد ما يُقال سوى التأكيد على التعامل مع كلّ تجربة جديدة له على حدة، من دون التعويل كثيرًا على ما سبقها من تجارب.
في جديده "الأخوان سيسترز" (sister brothers)، خطا أوديار خطوة كبيرة، غير مسبوقة ومحفوفة بمخاطر كثيرة. فهو لم يختر حيّزًا ليس له فقط، بل استعان بلغة غير لغته. جعل الغرب الأميركي أرضية له، تدور عليها أحداث "وسترن" أميركي صرف، يضرب بجذوره في صميم الـ"وسترن الأميركي" العتيد. وعقب انتهائه، يصعب القول إنّ المخرج أنجز فيلم "وسترن" للمرة الأولى، أو أنه ليس مخرجًا أميركيًا متخصّصًا في هذا النوع. إلى ذلك، خاض أوديار تجربة اللغة الإنكليزية الأميركية للمرة الأولى أيضًا. والسيطرة عليها، وإن تكن عائقًا، فهي لن تكون مُشكلة ضخمة. هو ليس أول أو آخر مخرج يعمل بلغة ليست لغته، وهذا أول أفلامه غير الناطقة بالفرنسية، والجرأة كامنةٌ في اختياره صنع فيلم "وسترن"، علمًا أنه ليس مجرّد فيلم "وسترن" عادي، بل تُحفة يمكن ضمّها إلى جوار التُحف الخالدة للـ"وسترن" على امتداد تاريخ السينما، التي صنعها أمثال جون فورد وسيرجيو ليوني وروبرت ألتمان، حتى وإن أُخِذَ عليه صناعته عملاً كلاسيكيًا تقليديًا.
"الأخوان سيسترز" مأخوذ عن رواية أميركية بالعنوان نفسه، صدرت عام 2011، للكندي باتريك دويت. تدور أحداثها، كما أحداث الفيلم، عام 1851، بين "أوريغون" و"كاليفورنيا"، أثناء ذروة البحث عن الذهب، والسعي إلى تحقيق ثراء سريع بضربة حظ حاسمة. في الفيلم، لم تطرأ تغييرات كثيرة على الأحداث والشخصيات الرئيسية للرواية. إيلي (جون سي. رايلي) وتشارلي (يواكين فونيكس)، شقيقان من عتاة المُجرمين المأجورين، أصحاب السمعة الشائنة. هما على قدر كبير من الذكاء والمهارة في إطلاق الرصاص، واستخدام كافة أنواع الأسلحة، والتخفّي، وسرعة إنهاء المعارك لصالحهما.
يستأجرهما رجل أعمال لسرقة صاحب تركيبة كيميائية سرية (ثم قتله)، تساعد على العثور على الذهب في أعماق الأنهار، وهي خطرة جدًا على شركات استخراج الذهب. بعد تحضيرها، تجعل التركيبةُ الذهبَ يلتمع في القاع، في دقائق وجيزة من سكبها في المياه وتَرَسُّبِها، فيسهل على المُنقّبين استخراجه.
خلال مدّة الفيلم، يُطارد تشارلي وإيلي صاحب التركيبة الكيميائية، هيرمان كيرميت وارم (ريز أحمد)، من مدينة إلى مدينة، ومن حانة إلى حانة. لكن وارم يفلت منهما قبيل وصولهما إلى المكان الذي يتواجد فيه. هناك من يُطارده أيضًا غيرهما: جون موريس (جاك غلّينهال)، المُحقّق المُكلّف بتعقّبه، والتحفظ عليه إلى حين وصول تشارلي وإيلي للإجهاز عليه، بعد انتزاع سرّ التركيبة منه.
اقــرأ أيضاً
مع تتالي الأحداث، تتوضّح الأعماق والأبعاد الإنسانية المُرتبطة بكلّ شخصية، خصوصًا الشقيق الأكبر إيلي، مقارنةً بتشارلي. يتمتّع الشقيقان بصفات وخصال إنسانية: إيلي أكثر نضجًا وحكمة وإنسانية، وتشارلي نقيضه تمامًا، بالإضافة إلى سُكره الدائم. في النهاية، يحب أحدهما الآخر حتى آخر نفس، رغم اختلاف وجهات النظر بينهما إزاء العمل والحياة، وأحيانًا تعاركهما وتضاربهما. كذلك بخصوص شخصيتي هيرمان وجون موريس. الشخصيات الـ4 الرئيسية، إلى الشقّ التقليدي الراسخ سينمائيًا في رسمها، محمَّلة بعمق كبير ونبرة إنسانية وحسّ فلسفي. هذا حاصل في كتابة السيناريو، التي أدّت إلى إنتاج فيلم "وسترن" غير سطحي في جوانبه كلّها. "وسترن" وجودي، إن جاز التعبير. وفي الوقت نفسه، على قدر كبير من الإثارة والتسلية والمُتعة.
إلى ذلك، ولأن النقص الإنساني أكبر من أي شيء آخر، يتحالف هؤلاء الـ4 لتوظيف التركيبة لمصلحتهم، علمًا أنّ هناك من استأجر من يُطاردهم للفتك بهم. لاحقًا، يستخدمون التركيبة، فيتلألأ الذهب في أحد الأنهار ليلاً أمام عيونهم. في مشهد ساحر، جماليًا وإنسانيًا، ينطلق تشارلي مُنسجمًا مع طبيعة شخصيته، فيُلقي بالتركيبة، شديدة السُمِّية، في النهر. لكن هذا لا يؤدّي إلى مزيد من الذهب اللامع، بل إلى فقدان هيرمان وجون حياتهما. حتى تشارلي نفسه يفقد ذراعه، فيضطر شقيقه إلى بترها في عيادة طبيب، في مشهد قاس. يفقد تشارلي يده التي لم تُخطئ أبدًا في التصويب. ينتهي الأمر بهما في منزل والدتهما، التي تستقبلهما بحرارة، بعد عودتهما إلى حضنها، لينتهي الفيلم بمشهد يستدعي إلى الذهن أحد مشاهد "الباحثون" (1956) لجون فورد.
تفاصيل كثيرة، إلى جانب السيناريو ورسم الشخصيات والحوار، تكشف جهود جاك أوديار لجعل فيلمه على هذا النحو النموذجي الرائع. يكفي أنه، في 121 دقيقة، لم يُثر شعورًا بأن المُشاهد أمام فيلم "وسترن" مُفتَعل أو زائف، أو تشوبه شائبة. أماكن التصوير والديكورات ساهمت في هذا، كما الموسيقى التصويرية الرائعة، التي تستعيد موسيقى أفلام الـ"وسترن" الباهرة. موسيقى تبقى طويلاً في الذاكرة، ألّفها ألكسندر ديبلا (1961)، الحائز على جوائز عديدة، أبرزها جائزتا "أوسكار" عن "فندق بودابست الكبير" (2014) للأميركي وس أندرسن و"شكل الماء" (2017) للمكسيكي غييرمو دِلْ تورو. هناك أيضًا الأداء الرائع لجون سي. رايلي ويواكين فونيكس: أداء عذب وصادق، إلى درجة مثيرة للحيرة أمام أي أداء أقوى من الآخر، و"الأخوان سيسترز" علامة فارقة في أدائهما. المُثير أكثر أن حضور جاك غيلينهال وريز أحمد يساهم في إحداث مُباراة تمثيلية رفيعة الطراز بين 4 مُمثلين متميزين للغاية، لكل واحد منهم أداء مُتفرّد.
التعامل مع عيّنات شتّى من الممثلين من الأمور الملحوظة بشدّة في سينما جاك أوديار: محترفون أو غير محترفين، عربٌ وآسيويون وأميركيون وفرنسيون، وغيرهم. إلى الملامح القليلة المشتركة، التي يُمكن رصدها في سينماه، لا يوجد ما يُقال سوى التأكيد على التعامل مع كلّ تجربة جديدة له على حدة، من دون التعويل كثيرًا على ما سبقها من تجارب.
في جديده "الأخوان سيسترز" (sister brothers)، خطا أوديار خطوة كبيرة، غير مسبوقة ومحفوفة بمخاطر كثيرة. فهو لم يختر حيّزًا ليس له فقط، بل استعان بلغة غير لغته. جعل الغرب الأميركي أرضية له، تدور عليها أحداث "وسترن" أميركي صرف، يضرب بجذوره في صميم الـ"وسترن الأميركي" العتيد. وعقب انتهائه، يصعب القول إنّ المخرج أنجز فيلم "وسترن" للمرة الأولى، أو أنه ليس مخرجًا أميركيًا متخصّصًا في هذا النوع. إلى ذلك، خاض أوديار تجربة اللغة الإنكليزية الأميركية للمرة الأولى أيضًا. والسيطرة عليها، وإن تكن عائقًا، فهي لن تكون مُشكلة ضخمة. هو ليس أول أو آخر مخرج يعمل بلغة ليست لغته، وهذا أول أفلامه غير الناطقة بالفرنسية، والجرأة كامنةٌ في اختياره صنع فيلم "وسترن"، علمًا أنه ليس مجرّد فيلم "وسترن" عادي، بل تُحفة يمكن ضمّها إلى جوار التُحف الخالدة للـ"وسترن" على امتداد تاريخ السينما، التي صنعها أمثال جون فورد وسيرجيو ليوني وروبرت ألتمان، حتى وإن أُخِذَ عليه صناعته عملاً كلاسيكيًا تقليديًا.
"الأخوان سيسترز" مأخوذ عن رواية أميركية بالعنوان نفسه، صدرت عام 2011، للكندي باتريك دويت. تدور أحداثها، كما أحداث الفيلم، عام 1851، بين "أوريغون" و"كاليفورنيا"، أثناء ذروة البحث عن الذهب، والسعي إلى تحقيق ثراء سريع بضربة حظ حاسمة. في الفيلم، لم تطرأ تغييرات كثيرة على الأحداث والشخصيات الرئيسية للرواية. إيلي (جون سي. رايلي) وتشارلي (يواكين فونيكس)، شقيقان من عتاة المُجرمين المأجورين، أصحاب السمعة الشائنة. هما على قدر كبير من الذكاء والمهارة في إطلاق الرصاص، واستخدام كافة أنواع الأسلحة، والتخفّي، وسرعة إنهاء المعارك لصالحهما.
يستأجرهما رجل أعمال لسرقة صاحب تركيبة كيميائية سرية (ثم قتله)، تساعد على العثور على الذهب في أعماق الأنهار، وهي خطرة جدًا على شركات استخراج الذهب. بعد تحضيرها، تجعل التركيبةُ الذهبَ يلتمع في القاع، في دقائق وجيزة من سكبها في المياه وتَرَسُّبِها، فيسهل على المُنقّبين استخراجه.
خلال مدّة الفيلم، يُطارد تشارلي وإيلي صاحب التركيبة الكيميائية، هيرمان كيرميت وارم (ريز أحمد)، من مدينة إلى مدينة، ومن حانة إلى حانة. لكن وارم يفلت منهما قبيل وصولهما إلى المكان الذي يتواجد فيه. هناك من يُطارده أيضًا غيرهما: جون موريس (جاك غلّينهال)، المُحقّق المُكلّف بتعقّبه، والتحفظ عليه إلى حين وصول تشارلي وإيلي للإجهاز عليه، بعد انتزاع سرّ التركيبة منه.
مع تتالي الأحداث، تتوضّح الأعماق والأبعاد الإنسانية المُرتبطة بكلّ شخصية، خصوصًا الشقيق الأكبر إيلي، مقارنةً بتشارلي. يتمتّع الشقيقان بصفات وخصال إنسانية: إيلي أكثر نضجًا وحكمة وإنسانية، وتشارلي نقيضه تمامًا، بالإضافة إلى سُكره الدائم. في النهاية، يحب أحدهما الآخر حتى آخر نفس، رغم اختلاف وجهات النظر بينهما إزاء العمل والحياة، وأحيانًا تعاركهما وتضاربهما. كذلك بخصوص شخصيتي هيرمان وجون موريس. الشخصيات الـ4 الرئيسية، إلى الشقّ التقليدي الراسخ سينمائيًا في رسمها، محمَّلة بعمق كبير ونبرة إنسانية وحسّ فلسفي. هذا حاصل في كتابة السيناريو، التي أدّت إلى إنتاج فيلم "وسترن" غير سطحي في جوانبه كلّها. "وسترن" وجودي، إن جاز التعبير. وفي الوقت نفسه، على قدر كبير من الإثارة والتسلية والمُتعة.
إلى ذلك، ولأن النقص الإنساني أكبر من أي شيء آخر، يتحالف هؤلاء الـ4 لتوظيف التركيبة لمصلحتهم، علمًا أنّ هناك من استأجر من يُطاردهم للفتك بهم. لاحقًا، يستخدمون التركيبة، فيتلألأ الذهب في أحد الأنهار ليلاً أمام عيونهم. في مشهد ساحر، جماليًا وإنسانيًا، ينطلق تشارلي مُنسجمًا مع طبيعة شخصيته، فيُلقي بالتركيبة، شديدة السُمِّية، في النهر. لكن هذا لا يؤدّي إلى مزيد من الذهب اللامع، بل إلى فقدان هيرمان وجون حياتهما. حتى تشارلي نفسه يفقد ذراعه، فيضطر شقيقه إلى بترها في عيادة طبيب، في مشهد قاس. يفقد تشارلي يده التي لم تُخطئ أبدًا في التصويب. ينتهي الأمر بهما في منزل والدتهما، التي تستقبلهما بحرارة، بعد عودتهما إلى حضنها، لينتهي الفيلم بمشهد يستدعي إلى الذهن أحد مشاهد "الباحثون" (1956) لجون فورد.
تفاصيل كثيرة، إلى جانب السيناريو ورسم الشخصيات والحوار، تكشف جهود جاك أوديار لجعل فيلمه على هذا النحو النموذجي الرائع. يكفي أنه، في 121 دقيقة، لم يُثر شعورًا بأن المُشاهد أمام فيلم "وسترن" مُفتَعل أو زائف، أو تشوبه شائبة. أماكن التصوير والديكورات ساهمت في هذا، كما الموسيقى التصويرية الرائعة، التي تستعيد موسيقى أفلام الـ"وسترن" الباهرة. موسيقى تبقى طويلاً في الذاكرة، ألّفها ألكسندر ديبلا (1961)، الحائز على جوائز عديدة، أبرزها جائزتا "أوسكار" عن "فندق بودابست الكبير" (2014) للأميركي وس أندرسن و"شكل الماء" (2017) للمكسيكي غييرمو دِلْ تورو. هناك أيضًا الأداء الرائع لجون سي. رايلي ويواكين فونيكس: أداء عذب وصادق، إلى درجة مثيرة للحيرة أمام أي أداء أقوى من الآخر، و"الأخوان سيسترز" علامة فارقة في أدائهما. المُثير أكثر أن حضور جاك غيلينهال وريز أحمد يساهم في إحداث مُباراة تمثيلية رفيعة الطراز بين 4 مُمثلين متميزين للغاية، لكل واحد منهم أداء مُتفرّد.