12 نوفمبر 2024
العودة إلى مدارسنا الرسمية
(إلى رندة سعد)
قالت لي م. إنها ستخرج بناتها الثلاث من المدرسة الخاصة، "سيدة الـ ..."، وسوف تسجّلهن في المدرسة الرسمية القريبة من منطقتها، لأن الأقساط ارتفعت جدا، حتى صارت لا تطاولها مهما حاولت وتطاولت. شجّعتُها مبسّطةً لها حدّة المأساة التي ظهرت جليةً على ملامحها، مضيفة أن الناس في فرنسا، مثلا، لا يرسلون أولادهم إلا إلى المدارس الرسمية، وهي الأفضل مستوىً، إذ تستثمر فيها الدولة كل طاقاتها لفتح حظوظ التعليم أمام الجميع بالتساوي. أصغت م. مهتمة، ثم أردفت دامعة: "يحزّ في قلبي أن أرسلهن إلى المدرسة الرسمية، لقد حدثوني عن مدرسة خاصة أخرى بأقساط معقولة جدا، ربما نذهب إليها"...
قال أخي: ولم تراكِ تريدين تغيير مدرسة ابنتك؟ قلت: لأني لا أجدها، ثقافيا، في المستوى المطلوب. قال: تعنين أنها ليست من مستوى التي يرتادها أبناء نوّابٍ ووزراء وأصحاب مصالح كبرى وشركات؟ صرتِ الآن ضد أصحاب المهن وأبناء الطبقة الوسطى؟ أنسيتِ أين درستِ أنتِ؟ شعرتُ بالمهانة، إذ قبضتُ على نفسي أفكّر كالسواد الأعظم من الناس في لبنان. فمدارسنا وجامعاتنا الخاصة ترتفع منزلةً كلما ارتفعت أقساطها وغلت، ومدارسنا الباهظة الأقساط من علامات الترقّي الاجتماعي، وسببٌ من أسباب إفلاس بعض العائلات من ذوات الدخل المتوسط ورزوحهم تحت الديون.
اليوم، وبعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب في لبنان، يعاني عددٌ هائل من ذوي الدخل المحدود صعوباتٍ جمّة في إبقاء أطفالهم في مدارسهم، حيث ارتفعت الأقساط بنسب هائلة تقارب 30%. تشكو إدارات المدارس الخاصة من ضرورة رفع رواتب المعلمين لديها، فتعاقب الأهالي الذين يدفعون الثمن مرغمين زيادةً في الأقساط، وأسعار القرطاسية واللوازم وسواها من الضروريات. ومَن لم يسعفه جيبه، أو رفض الانصياع، سيعاني الأمرّين لإدخال أطفاله المدارس الرسمية، حيث الأماكن محدودة، على الرغم من تصريح وزير التربية "التخطيط لاستقبال 265 ألف متعلم لبناني، و220 ألف متعلم لاجئ في مدارسنا الرسمية. كما أننا نستقبل في برنامج التعليم غير النظامي نحو 75 ألف تلميذ لاجئ"...
أفكّر بحواري مع م .، كان يجب أن أقنعها بأنها فرصةٌ ربما للضغط على الدولة، لكي تقوم بتحسين المدرسة الرسمية، وإعادتها إلى ما كانت عليه ذات يوم. أجل، كانت هناك أيام كانت المدارس الرسمية اللبنانية، في العاصمة وفي المناطق، مفخرةً وطنيةً وتربويةً. كانت نسبة النجاح في الامتحانات الرسمية مرتفعةً، تضاهي نتائج أهم المدارس الخاصة. كان مستوى الأساتذة ممتازا، شبانا تخرّجوا لتوّهم من الجامعة الوطنية، وأساتذة متمرّسين ذوي ثقافة واسعة وخبرات كبيرة. كانت المدارس الرسمية بيئةً حاضنةً مختلف الطوائف، ومكانا لتخالط مختلف الفئات، وجوازا للترقّي الاجتماعي، ومكانا لحرية التعبير، ومخبرا للحياة السياسية المتنوّعة.
المدارس الرسمية هي التي صنعت منّا نخبةً، نحن أبناء الطبقة الوسطى، قبل أن تنفجر الحرب في رؤوسنا. صنعتنا كتّابا وصحافيين وعلماء ومحامين وأطباء وفنانين تشكيليين ومهندسين معماريين و... هي التي ربطتنا مسلمين ومسيحيين، يمينا ويسارا، صبيانا وبناتا، ناصريين وشيوعيين وكتائب واشتراكيين، فأثرتنا وأنضجتنا وشرّعت آفاقنا على العالم القريب والقصيّ. لا أذكر منها إلا عشقي اللغة العربية التي أرضعتني إياه الأستاذة محيو، وولعي بالأستاذ سابا، الشاب الجميل، معلّم الرياضيات، وصداقتي الرائعة برندة سعد، القادمة من اتجاهٍ معاكس، وسيلفانا التي كنتُ أحملها على ظهري في كل المسابقات، وابنة الطبيب حوّا، الأولى في الصف التي تفوّقت عليها بأشواط.
حين تركتُ مدرسة الراهبات الخاصة، حيث كنت أدرس، بكيتُ طويلا. شعرتُ وكأنني أُعاقَب على ذنبٍ لم أقترفه. لم أكن أدرك في أي عالم سحريّ سوف أراهق لاحقا، ومذاق أوكسجين الحرية الذي سأتذوّقه. إلى اليوم، كلما مررت بثانويتي في الأشرفية، أوجعني الحنين إلى تلك الأيام، وشعرتُ بالامتنان. ليتنا حفظنا مدارسنا الرسمية تلك، ليتها تعود ذات يوم، وإليها نعود.
قال أخي: ولم تراكِ تريدين تغيير مدرسة ابنتك؟ قلت: لأني لا أجدها، ثقافيا، في المستوى المطلوب. قال: تعنين أنها ليست من مستوى التي يرتادها أبناء نوّابٍ ووزراء وأصحاب مصالح كبرى وشركات؟ صرتِ الآن ضد أصحاب المهن وأبناء الطبقة الوسطى؟ أنسيتِ أين درستِ أنتِ؟ شعرتُ بالمهانة، إذ قبضتُ على نفسي أفكّر كالسواد الأعظم من الناس في لبنان. فمدارسنا وجامعاتنا الخاصة ترتفع منزلةً كلما ارتفعت أقساطها وغلت، ومدارسنا الباهظة الأقساط من علامات الترقّي الاجتماعي، وسببٌ من أسباب إفلاس بعض العائلات من ذوات الدخل المتوسط ورزوحهم تحت الديون.
اليوم، وبعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب في لبنان، يعاني عددٌ هائل من ذوي الدخل المحدود صعوباتٍ جمّة في إبقاء أطفالهم في مدارسهم، حيث ارتفعت الأقساط بنسب هائلة تقارب 30%. تشكو إدارات المدارس الخاصة من ضرورة رفع رواتب المعلمين لديها، فتعاقب الأهالي الذين يدفعون الثمن مرغمين زيادةً في الأقساط، وأسعار القرطاسية واللوازم وسواها من الضروريات. ومَن لم يسعفه جيبه، أو رفض الانصياع، سيعاني الأمرّين لإدخال أطفاله المدارس الرسمية، حيث الأماكن محدودة، على الرغم من تصريح وزير التربية "التخطيط لاستقبال 265 ألف متعلم لبناني، و220 ألف متعلم لاجئ في مدارسنا الرسمية. كما أننا نستقبل في برنامج التعليم غير النظامي نحو 75 ألف تلميذ لاجئ"...
أفكّر بحواري مع م .، كان يجب أن أقنعها بأنها فرصةٌ ربما للضغط على الدولة، لكي تقوم بتحسين المدرسة الرسمية، وإعادتها إلى ما كانت عليه ذات يوم. أجل، كانت هناك أيام كانت المدارس الرسمية اللبنانية، في العاصمة وفي المناطق، مفخرةً وطنيةً وتربويةً. كانت نسبة النجاح في الامتحانات الرسمية مرتفعةً، تضاهي نتائج أهم المدارس الخاصة. كان مستوى الأساتذة ممتازا، شبانا تخرّجوا لتوّهم من الجامعة الوطنية، وأساتذة متمرّسين ذوي ثقافة واسعة وخبرات كبيرة. كانت المدارس الرسمية بيئةً حاضنةً مختلف الطوائف، ومكانا لتخالط مختلف الفئات، وجوازا للترقّي الاجتماعي، ومكانا لحرية التعبير، ومخبرا للحياة السياسية المتنوّعة.
المدارس الرسمية هي التي صنعت منّا نخبةً، نحن أبناء الطبقة الوسطى، قبل أن تنفجر الحرب في رؤوسنا. صنعتنا كتّابا وصحافيين وعلماء ومحامين وأطباء وفنانين تشكيليين ومهندسين معماريين و... هي التي ربطتنا مسلمين ومسيحيين، يمينا ويسارا، صبيانا وبناتا، ناصريين وشيوعيين وكتائب واشتراكيين، فأثرتنا وأنضجتنا وشرّعت آفاقنا على العالم القريب والقصيّ. لا أذكر منها إلا عشقي اللغة العربية التي أرضعتني إياه الأستاذة محيو، وولعي بالأستاذ سابا، الشاب الجميل، معلّم الرياضيات، وصداقتي الرائعة برندة سعد، القادمة من اتجاهٍ معاكس، وسيلفانا التي كنتُ أحملها على ظهري في كل المسابقات، وابنة الطبيب حوّا، الأولى في الصف التي تفوّقت عليها بأشواط.
حين تركتُ مدرسة الراهبات الخاصة، حيث كنت أدرس، بكيتُ طويلا. شعرتُ وكأنني أُعاقَب على ذنبٍ لم أقترفه. لم أكن أدرك في أي عالم سحريّ سوف أراهق لاحقا، ومذاق أوكسجين الحرية الذي سأتذوّقه. إلى اليوم، كلما مررت بثانويتي في الأشرفية، أوجعني الحنين إلى تلك الأيام، وشعرتُ بالامتنان. ليتنا حفظنا مدارسنا الرسمية تلك، ليتها تعود ذات يوم، وإليها نعود.