العرض الراقص "مجرد حقيقة" مواجهاً "الوعي المنفصم"

29 سبتمبر 2015
من العرض (الصور: مظفر سلمان)
+ الخط -

"مجرد حقيقة" اسم العرض الراقص القصير الذي قدمته السورية يارا الحاصباني والسوري حسين الغجر في ساحة "تروكاديرو" المطلة على برج إيفل في باريس في ذكرى مجزرة الكيماوي الشهر الماضي.

هذا كان اسمه، لكنه من جهة أخرى ومن حيث مفاعيله وكونه حدثاً فنياً، لم يكن في وجه من وجوهه إلا "مجرد حقيقة" أخرى؛ حدثاً سوريّاً إضافياً، ضحاياه أصحابه المعرقلة خطاهم نحو خلاصهم، باصطدامه الحاد -هذه المرة- وغير المتوقع ليس بمن ينكرون أو يتجاهلون المجزرة التي ارتكبها النظام في دمشق، بل مع بعض الناطقين الافتراضيين باسم الشعب السوري والثورة من أصحاب "الوعي المنفصم" والتعبير هنا للمعارض السوري المعروف نجاتي طيارة.

هذا أن العرض الذي صممته راقصة الباليه يارا، ابنة مروان الحاصباني من قضى تحت التعذيب في سجون الأسد، العرض الذي أثر تأثيراً كبيراً بدقائقه العشر على من حضر من سوريين وفرنسيين وغيرهم في الساحة الباريسية الشهيرة دون استدرار للعواطف، وهو ما بدا ملحوظاً من سرعة انتشاره على صفحات الإنترنت بأنواعها، كحدث فني أبرز الذكرى المشؤومة، وسط فعاليات باهتة للمعارضة المشغولة في الخارج بتحزباتها وتمويلاتها.

العرض الذي تلقفه السوري المقهور قبل غيره بظمأ من حُرمَ طويلاً من أشكال فنية متطورة ومحترفة ومعايير جمالية جديدة تعبّر عنه وتتحدث باسمه، وأخيراً، الذي نال ما ناله من حفاوة المتابعين على شاشاتهم في الداخل والخارج لسبب أساسي هو جودته الفنية والحرفية المقرونة بالموهبة، دون ادّعاءٍ أو متاجرةٍ بالقضية السورية على عتبات التمويل.

إذاً، القضية أن هذا العرض المميز والجديد والمصيب لأهدافه بدقة والمستقل عن أي مصدر للتمويل أو تحزب إلى أي جهة أو شلّة ثقافية ما أو غير ثقافية؛ قد أخَذَ عليه بعضهم مأخذاً "لا يغتفر"، أثار جدلاً على صفحات التواصل دافعاً باتجاه حرف طاقة العرض/الحدث عن مبتغاها الفني وهدفها السياسي، هو أن راقصة الباليه يارا ارتدت "شورت قصير جداً"، و"تيشرت مكشوف جداً"؛ الأمر "الذي يدفع للاستغراب وإعادة النظر بمجمل وعينا وعلاقتنا بشعبنا".. والتعبيرات الأخيرة كلها أيضاً للمعارض السوري البارز نجاتي طيارة.


ربما لم يكن منتقدو العرض من هذه الزاوية يتوقعون أن يحظى هذا الشكل الفني بما حظي به من متابعة، وسط الجفاف والاجترار، والتباكي الإعلامي على ضحايا مجزرة الكيماوي، وأن يقلده آخرون في أماكن أخرى لتعريف العالم بالمجزرة، وإذ يُبرزُ "صمودُ" الأسد فشلَ الخطاب الرسمي للمعارضة وخيبة الكثير من الأشكال الفنية المموَّلة، فإن بروز تجربة كهذه يكسر التوازن ويعيد الفاعلية إلى أصلها، ويعيد بعضاً من حياةٍ لمن قضوا، بوجود جمهور لم يعد يأبه لعصا الموجِّه الأستاذ، وإذا اهتم لها فإن ذلك لن يردعه، سراً أو علانية، عن مشاهدة التجربة العصية على المنع كما لم تكن زمن النظام ما قبل الثورة.

هذا أن الذي لا يعلمه المعارض المعروف، أن وزارة ثقافة الأسد منعت قبيل الثورة راقصي الباليه في سورية، بقرارٍ رسمي، من ارتداء الأزياء "المنافية للحشمة"، بمعايير لا تختلف كثيراً عن معايير صاحبنا الآن، بل تتجاوزها من حيث الكتم وشدة الرقابة، بما يدل -حسب منطق طيارة- على مراعاة النظام لتقاليد وأعراف وثقافة المجتمع بأحسن مما ينادي هو به!

اللوحة المعنونة باسم "مجرد حقيقة" التي يؤديها رجل وامرأة: ذكر وأنثى، طفل وطفلة، إنسان وإنسانة، تنجح بما لديها من تقنيات وبما يمتلكه فن الرقص من إمكانية عالية على التجريد، باختراق الواقع دون تجاوزه، والخروج منه نحو فضاء أرحب لا يخص السوري وحده، لكن لا يقصيه أيضاً خارج دائرة أهدافها، بل يدمجه بالإنسانية ككل، ويجعل أيضاً كلَّ إنسان سورياً.

هكذا، رأينا الرجل المنبثق من المرأة الأم في البداية، ثم تكاملهما في تعلمهما "المشي" والحركة بتداخل مدروس للجسدين، وصولاً -تدريجياً- إلى ذروة الوقوف والنضج المكتمل بالتكوين النهائي لرجلٍ يحمل امرأةً على كتفيه تكون آخر حركة فيه أن ترفع يديها بعلامة الشهادة أو النصر وتصرخ: حرية، بما يحاكي النموذج الأعلى لمظاهرات السوريين في ثورتهم، لكنَّ طلقةً لا نسمع صوتها ترديها، وترديه.

من الموت ومن الجسدين المسجيين، ينبثق طفلان يبدآن اللعب من جديد، فتعاجلهما المجزرة ويغمرهما "الطحين" كفعل أعنف، مضاد لقوة الحياة المتجددة. يبدأ الجسدان أخيراً بالتشنج والارتجاف، والاحتضار البطيء وتتخشب الأطراف بما يشبه محاكاةً أخرى شديدة الواقعية لضحايا الكيماوي، لم ينقص المشهد -هنا- الجرأة ليدخل، بل ليقتحم أكثر مفهوم الرقص المعاصر في مدة لا تتجاوز عشر دقائق بهذه الجيستات والثيمات الحركية الملتصقة جداً بالحياة والواقع.

لكن النقد الموتور مجدداً سيتخفّى بذريعة فنية ويحاجج بها ليموه هوساً جنسياً هو الأصل هنا، بأن المشكلة ليست بـ"الشورت" بل إن هذا الزي لا يشبه ما ترتديه النساء السوريات، وأن هذا العرض لا بد سيحظى بإعجاب الجمهور الغربي بسبب رؤيته لجسد الشابة الرشيق "المعروض" على الطريقة الغربية الشائعة. وفي تعبير لرافض آخر على الفيسبوك، أنه لا يرى وجهاً للشبه بين المؤخرات الظاهرة والبارزة وضحايا المجزرة المستورة مؤخراتهم ويضيف "رغم إعجابه بالعرض".

هكذا إذ يقر نجاتي طيارة (ومن خلفه معسكر يبدو أن فرضه للزي الموحد لن يقتصر على راقصين سوريين في باريس، بل ربما على مجتمعٍ بأسره لو أمكن) بأن العرض سيعجب الجميع لأنه يتوافق مع معايير الفن والجمال والميديا والإعلان على مستوى الغرب، بل على مستوى العالم (والكلام له).

أي أن هذا العرض عملياً حقق ما عجز هوَ نفسه عن تحقيقه كما بقية أعلام وإعلام المعارضة، إلا أنه لا يتردد بإضافة العبارات التالية: "هذه الرقصة أو المشهد، تعبر عن انفصال وعي وسلوك من قام بها -وصفق لها وأعجب بها من السوريين الحاضرين- عن شعبنا وتقاليده ونمط حياته ووعيه الراهن، بل هي تعبير عن وجه آخر من التضاد النخبوي الاستعلائي الذي مثل النظام المجرم ذروته".

ربما أصبح من الواضح من قصَدْنا في بداية المقال بأصحاب "الوعي المنفصم" الذين اصطدموا بهذه التجربة الفنية الحرة: "مجرد حقيقة".


* مسرحي سوري / باريس


اقرأ أيضاً: "أوكنو".. مسرحية سورية تقفز من النافذة

دلالات
المساهمون