24 سبتمبر 2020
العرب ومواجهة صفقة القرن
ظهر مصطلح صفقة القرن أول مرة فى الثالث من إبريل/ نيسان 2017، في أثناء لقاء في البيت الأبيض بين الرئيسين، الأميركي دونالد ترامب والمصري عبد الفتاح السيسي، في الزيارة الأولى للأخير إلى واشنطن في عهد الرئيس الجديد ترامب، وعادة ما تتصف زيارات كهذه بطابع بروتوكولي خاص، إذ تهدف إلى تقديم التهنئة للرئيس الأميركي المنتخب، والتأكيد على قوة الروابط مع الولايات المتحدة. ولأنه كان يتطلع إلى بناء جسر قوي للعلاقات مع ترامب وإدارته الجمهورية، حرص الرئيس المصري فى سياق الكلمات المتبادلة بين الرئيسين، فى مستهل اللقاء بينهما، على أن يتسم حديثه بالمجاملة للرئيس ترامب، وظهر ذلك جلياً، حين ذكر أنه كان يراهن على فوزه في الانتخابات، ثم أكد على دعمه خطط ترامب المستقبلية تجاه المنطقة، حين ذكر أنه سيكون داعماً وبشدة لجهوده في تحقيق "صفقة القرن" من أجل إيجاد حل لقضية القرن، في إشارة إلى القضية الفلسطينية.
ومنذ ذلك التصريح، أصبح المصطلح متداولاً على نطاق واسع، عند الحديث عن القضية الفلسطينية، أو إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة العربية، والشرق الأوسط عموماً. وعن الدور الأميركي المرتقب في المنطقة، طبقاً لرؤية ترامب، والمتمثلة في "صفقة القرن" تلك، والتي لم يكن أحد يعرف شيئاً عنها. كذلك فإن أياً من الرئيسين لم يذكر المصطلح، أو يُشير إليه صراحة، فى أي مناسبةٍ أخرى، ولعل أهم تلك المناسبات كانت الزيارة التاريخية للرئيس الأميركي إلى الرياض (20 ـ 22 مايو/ أيار 2017)، والقمم الثلاث التى عقدها، وأولها
أميركية - سعودية أسفرت عن عقد تفاهمات وصفقات استراتيجية غير مسبوقة، اقتربت قيمتها من 400 مليار دولار، أعقبتها قمة أميركية - خليجية، ثم كانت القمة الأكبر، الأميركية - العربية والإسلامية، وشاركت فيها أكثر من 50 دولة عربية وإسلامية. وعلى الرغم من أن القضية الرئيسية التى كانت مطروحة كانت الحرب على الإرهاب، إلا أنه تمت الإشارة إلى القضية الفلسطينية في كلمات عدد من الزعماء، في سياق السعي إلى التوصل إلى سلامٍ يسهم في تحقيق الاستقرار في المنطقة، وهو ما يُسهم في الحد من التطرّف والإرهاب. ولكن لم يرد ذكرٌ لمصطلح "صفقة القرن" ولا لرؤية ترامب للوصول إلى حل شامل للقضية الفلسطينية. وانتهت الزيارة التاريخية للرئيس الأميركي العربية السعودية، ولقاءاته مع ذلك الجمع من الملوك والأمراء والرؤساء من العالمين، العربي والإسلامي، وغادر الرياض متوجهاً مباشرة إلى تل أبيب.
الأمر المثير أن أول حدث شهدته المنطقة في أعقاب زيارة ترامب التاريخية، وقممه الثلاث، جاء بشكل دراماتيكي، وبعد أقل من أسبوعين من مغادرة ترامب، وبالتحديد في 5 يونيو/ حزيران 2017، وهو تفجر أزمة الخليج، بحصار السعودية والإمارات والبحرين ومصر دولة قطر ومقاطعتها، بدعوى دعمها الإرهاب، وتدخلها في الشؤون الداخلية لتلك الدول.
ولم تقف الأمور عند ذلك الحد، ولكن بدأت تتسرب، عبر وسائل الإعلام المحلية، والإقليمية، والدولية، تحليلات ودراسات وأحاديث وتصريحات تتضمن معلومات وتفصيلات عن "صفقة القرن"، خلاصتها أن الصفقة التي يدبر لها ترامب، بالتنسيق مع الكيان الصهيوني، وتواطؤ أو تجاهل من بعض النظم العربية، ولا مبالاة من باقي النظم، عملية تصفية شاملة ونهائية للقضية الفلسطينية، وحل نهائي للمسألة اليهودية، باعتبار كل فلسطين التاريخية، من البحر إلى النهر، هى أرض إسرائيل (إيرتز إسرائيل)، وعليها تقوم دولة إسرائيل وعاصمتها القدس (لا حديث عن قدس غربية وأخرى شرقية بل قدس واحدة). وبالتالي، لا مجال للحديث عن إزالة مستوطنات يهودية فى الضفة الغربية، والتي هي "يهودا والسامرة". ولا مجال للحديث عن دولة فلسطينية على أرض فلسطين، ولا عن قُدس عربية عاصمة لتلك الدولة. ويمكن فقط السماح "لسكان" فلسطينيين، وليسوا مواطنين، في الضفة الغربية، بالبقاء فيها فى إطار شكلٍ من الإدارة الذاتية مع تفاهماتٍ خاصة مع كل من دولة إسرائيل والمملكة الأردنية، فماذا إذن عن باقي الفلسطينيين؟ لتكن لهم دولة فى قطاع غزة، وإذا ضاقت عليهم، فليكن لهم امتداد في شبه جزيرة سيناء، في إطار تفاهماتٍ يمكن أن تتم مع مصر.
لكي يتم تنفيذ تلك الصفقة الخبيثة، لا بد من تحقيق عدة شروط رئيسية.. أولها موقف أميركي قوي وحاسم، حتى لو كان صادماً، وهو ما بدأ بالفعل في قرار ترامب الذي وقعه، في مشهد درامي في مكتبه في البيت الأبيض، وفى حضور نائبه، وعلى الهواء مباشرة، بالتصديق على اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، وإصدار أمره إلى وزارة الخارجية، اتخاذ الترتيبات بنقل
السفارة الأميركية إليها. وأعقبت ذلك تصريحات عديدة للرئيس ترامب، وخصوصاً فى لقاءاته مع مجموعاتٍ من اللوبيات اليهودية في أميركا، لعل أهمها ما ذكره عن أن أرض فلسطين التاريخية هي أرض دولة إسرائيل، وعاصمتها القدس، والتي لن تكون على طاولة أي مفاوضات مقبلة. أما الفلسطينيون فعليهم إقامة دولتهم على أرض شبه جزيرة سيناء، وأن نصف سيناء حوالى 30 ألف كم مربع كافية لاستيعاب 25 مليون مواطن، وليس فقط تسعة ملايين فلسطيني. وأن الأمر يحتاج 800 مليار دولار لإقامة الدولة عليها، يمكن تدبيرها خصوصاً من دول الخليج.
الشرط الثاني المهم هو تهيئة الموقف العربي والإقليمي للتعامل مع تلك الصفقة بإيجابية، وعلى أقل تقدير بصمت وعدم ممانعة. وبمعنى آخر، تعويم إسرائيل وتسويقها لدى الرأي العام العربي باعتبارها "جاراً" وليست عدواً، بل هناك عدو آخر مشترك لكل من العرب وإسرائيل، وهو إيران. هذا بالإضافة إلى حالة التصدّع والسيولة الشديدة التي تعاني منها المنطقة في ظل الحروب والصراعات القائمة.
الشرط الثالث، والأكثر أهمية، هو المتعلق بالفلسطينيين، أصحاب الأرض والقضية، بكل تنويعاتهم. السلطة الفلسطينية في رام الله، وفلسطينيو الضفة الغربية والقدس، و"حماس" وحركات المقاومة وفلسطينيو قطاع غزة، وأخيراً فلسطينيو الخارج، سواء في دول اللجوء الرئيسية، أو في دول المهجر، وضرورة تهيئتهم، وتطويعهم، لقبول تلك الصفقة المشبوهة، عن رضىً أو قسراً، بكل وسائل الإغراء أو الضغط المعنوي والمادي. ولعل أقرب الأمثلة على ذلك حجب أميركا مخصصات لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، والتهديد بوقف كل المساعدات المادية للسلطة الفلسطينية، والضغوط والتهديدات المستمرة على قطاع غزة وحركة حماس، وجديدها إدراج رئيس المكتب السياسي لها، إسماعيل هنية، في لائحة الإرهاب.
في ظل ذلك المناخ السائد في المنطقة، وخصوصاً تهافت معظم نُظم الحكم القائمة، ورضوخاً للإرادة الأميركية، وترويج نظرية العدو المشترك عربياً وإسرائيلياً، إيران، يبدو الجو مُهيأ للمضي فى تنفيذ صفقة القرن، وتصفية القضية الفلسطينية. ولكن، على الرغم من الضباب الكثيف المحيط بالمنطقة، وعلى الرغم من رخاوة الموقف الرسمي العربي، يبقى الأمل قائماً في الشعوب العربية، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني ومقاومته، والتي ليس أمامها سوى طريق واحد، وهو الخروج من حالة الإحباط التي تعيشها منذ انتكاسة الربيع العربي، وتواجه بحسم ما تحمله "صفقة القرن" من تحديات وجودية للأمة العربية والإسلامية، فالقضية ليست مجرد قضية نُظم وحكومات، تأتي وتذهب، ولكنها قضية أمة وهوية وأرض ومقدسات، فهل يدرك العرب ذلك؟.
ومنذ ذلك التصريح، أصبح المصطلح متداولاً على نطاق واسع، عند الحديث عن القضية الفلسطينية، أو إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة العربية، والشرق الأوسط عموماً. وعن الدور الأميركي المرتقب في المنطقة، طبقاً لرؤية ترامب، والمتمثلة في "صفقة القرن" تلك، والتي لم يكن أحد يعرف شيئاً عنها. كذلك فإن أياً من الرئيسين لم يذكر المصطلح، أو يُشير إليه صراحة، فى أي مناسبةٍ أخرى، ولعل أهم تلك المناسبات كانت الزيارة التاريخية للرئيس الأميركي إلى الرياض (20 ـ 22 مايو/ أيار 2017)، والقمم الثلاث التى عقدها، وأولها
الأمر المثير أن أول حدث شهدته المنطقة في أعقاب زيارة ترامب التاريخية، وقممه الثلاث، جاء بشكل دراماتيكي، وبعد أقل من أسبوعين من مغادرة ترامب، وبالتحديد في 5 يونيو/ حزيران 2017، وهو تفجر أزمة الخليج، بحصار السعودية والإمارات والبحرين ومصر دولة قطر ومقاطعتها، بدعوى دعمها الإرهاب، وتدخلها في الشؤون الداخلية لتلك الدول.
ولم تقف الأمور عند ذلك الحد، ولكن بدأت تتسرب، عبر وسائل الإعلام المحلية، والإقليمية، والدولية، تحليلات ودراسات وأحاديث وتصريحات تتضمن معلومات وتفصيلات عن "صفقة القرن"، خلاصتها أن الصفقة التي يدبر لها ترامب، بالتنسيق مع الكيان الصهيوني، وتواطؤ أو تجاهل من بعض النظم العربية، ولا مبالاة من باقي النظم، عملية تصفية شاملة ونهائية للقضية الفلسطينية، وحل نهائي للمسألة اليهودية، باعتبار كل فلسطين التاريخية، من البحر إلى النهر، هى أرض إسرائيل (إيرتز إسرائيل)، وعليها تقوم دولة إسرائيل وعاصمتها القدس (لا حديث عن قدس غربية وأخرى شرقية بل قدس واحدة). وبالتالي، لا مجال للحديث عن إزالة مستوطنات يهودية فى الضفة الغربية، والتي هي "يهودا والسامرة". ولا مجال للحديث عن دولة فلسطينية على أرض فلسطين، ولا عن قُدس عربية عاصمة لتلك الدولة. ويمكن فقط السماح "لسكان" فلسطينيين، وليسوا مواطنين، في الضفة الغربية، بالبقاء فيها فى إطار شكلٍ من الإدارة الذاتية مع تفاهماتٍ خاصة مع كل من دولة إسرائيل والمملكة الأردنية، فماذا إذن عن باقي الفلسطينيين؟ لتكن لهم دولة فى قطاع غزة، وإذا ضاقت عليهم، فليكن لهم امتداد في شبه جزيرة سيناء، في إطار تفاهماتٍ يمكن أن تتم مع مصر.
لكي يتم تنفيذ تلك الصفقة الخبيثة، لا بد من تحقيق عدة شروط رئيسية.. أولها موقف أميركي قوي وحاسم، حتى لو كان صادماً، وهو ما بدأ بالفعل في قرار ترامب الذي وقعه، في مشهد درامي في مكتبه في البيت الأبيض، وفى حضور نائبه، وعلى الهواء مباشرة، بالتصديق على اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، وإصدار أمره إلى وزارة الخارجية، اتخاذ الترتيبات بنقل
الشرط الثاني المهم هو تهيئة الموقف العربي والإقليمي للتعامل مع تلك الصفقة بإيجابية، وعلى أقل تقدير بصمت وعدم ممانعة. وبمعنى آخر، تعويم إسرائيل وتسويقها لدى الرأي العام العربي باعتبارها "جاراً" وليست عدواً، بل هناك عدو آخر مشترك لكل من العرب وإسرائيل، وهو إيران. هذا بالإضافة إلى حالة التصدّع والسيولة الشديدة التي تعاني منها المنطقة في ظل الحروب والصراعات القائمة.
الشرط الثالث، والأكثر أهمية، هو المتعلق بالفلسطينيين، أصحاب الأرض والقضية، بكل تنويعاتهم. السلطة الفلسطينية في رام الله، وفلسطينيو الضفة الغربية والقدس، و"حماس" وحركات المقاومة وفلسطينيو قطاع غزة، وأخيراً فلسطينيو الخارج، سواء في دول اللجوء الرئيسية، أو في دول المهجر، وضرورة تهيئتهم، وتطويعهم، لقبول تلك الصفقة المشبوهة، عن رضىً أو قسراً، بكل وسائل الإغراء أو الضغط المعنوي والمادي. ولعل أقرب الأمثلة على ذلك حجب أميركا مخصصات لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، والتهديد بوقف كل المساعدات المادية للسلطة الفلسطينية، والضغوط والتهديدات المستمرة على قطاع غزة وحركة حماس، وجديدها إدراج رئيس المكتب السياسي لها، إسماعيل هنية، في لائحة الإرهاب.
في ظل ذلك المناخ السائد في المنطقة، وخصوصاً تهافت معظم نُظم الحكم القائمة، ورضوخاً للإرادة الأميركية، وترويج نظرية العدو المشترك عربياً وإسرائيلياً، إيران، يبدو الجو مُهيأ للمضي فى تنفيذ صفقة القرن، وتصفية القضية الفلسطينية. ولكن، على الرغم من الضباب الكثيف المحيط بالمنطقة، وعلى الرغم من رخاوة الموقف الرسمي العربي، يبقى الأمل قائماً في الشعوب العربية، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني ومقاومته، والتي ليس أمامها سوى طريق واحد، وهو الخروج من حالة الإحباط التي تعيشها منذ انتكاسة الربيع العربي، وتواجه بحسم ما تحمله "صفقة القرن" من تحديات وجودية للأمة العربية والإسلامية، فالقضية ليست مجرد قضية نُظم وحكومات، تأتي وتذهب، ولكنها قضية أمة وهوية وأرض ومقدسات، فهل يدرك العرب ذلك؟.