العرب وإيران وتحولات الإقليم

21 يوليو 2015
+ الخط -
لا أجد مبرراً لحالة الهلع التي أصابت بعض النخب العربية، بعد توقيع الاتفاق النووي بين إيران والغرب (تحديداً مجموعة الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن وألمانيا). ولا أدري ما سرّ التوتر الذي خيّم على بعض العواصم العربية بعد الاتفاق، والذي يعكس حجم الخلل في منظومتنا ورؤيتنا الاستراتيجية. 
أدرك جيداً النتائج التي قد يرتبها الاتفاق على الوضع الاستراتيجي في المنطقة، وأتفهم حالة عدم الثقة فى الجار الإيراني، بسبب سلوكه وتدخله الفج في الشؤون العربية، لكن البكاء على الأطلال و"شق الخدود" ليس الحل للتعاطي مع هكذا اتفاق.
وبداية، سوف يمثل الاتفاق، لو تم احترامه وتنفيذه فعلياً، منعطفاً تاريخيا في الوضع الاستراتيجي في المنطقة العربية سنوات مقبلة، فهو من جهة سوف يدعم الوضع الاقتصادي لطهران، بما يؤهلها لإعادة بناء بنيتها التحتية، خصوصاً في مجالات النفط والإعمار والأسلحة التقليدية، والتي أصابها الضعف في العقدين الماضيين، ما يعني أن إيران سوف تصبح قوة اقتصادية إقليمية، وربما عالمية، في سنوات قليلة، على غرار ما حدث مع تركيا التي أصبحت قوة اقتصادية كبيرة في أقل من عقد. ومن جهة ثانية، سوف يزيد رفع العقوبات عن إيران، بلا شك، من وزنها وشوكتها الإقليمية، ليس فقط بسبب تحسن اقتصادها، وإنما أيضا بسبب انعكاسات ذلك على علاقاتها الاستراتيجية مع حلفائها. وبالمناسبة، إيران، وقعت الاتفاق أم لم توقع، مستمرة فى دعم هؤلاء الحلفاء. صحيح أن هذا الدعم سوف يزيد في الفترة المقبلة، وقد يتنوع، لكنه ليس أمراً جديداً.
ومن جهة ثالثة، قد يفتح توقيع الاتفاق المجال أمام تطبيع العلاقات بين طهران والغرب، خصوصاً إذا ما أبدت القيادة الإيرانية قدراً من المرونة، وغيّرت خطابها الإيديولوجي العدائى تجاه الغرب، وخصوصا أميركا. وهذا، لو حدث، سيكون تحولاً تاريخياً علي غرار التحولات التاريخية التي حدثت في العلاقات الدولية في العقود الماضية، على غرار ما حدث بين أميركا والصين أوائل السبعينيات، حين قام الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون بزيارة تاريخية للصين عام 1972 لأول مرة خلال ربع قرن، انقطعت فيها العلاقات بين واشنطن وبكين بسبب الحرب الكورية. أو كما حدث بين مصر وإسرائيل، حين زار الرئيس الراحل أنور السادات الكنيست الإسرائيلي في العشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 1977، ومهدت زيارته لتوقيع معاهدة السلام، وقلبت موازين الصراع العربي-الإسرائيلي.

وعلى الرغم من أنه يصعب تخيّل زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما طهران خلال عهده، أو إلقائه خطاباً في "مجلس الشورى" الإيراني، إلا أنه لو التزمت طهران بالاتفاق، ونجحت الدبلوماسية الغربية في تفكيك شفرتها الإيديولوجية، فلربما نشهد زعماء أوروبيين وغربيين يتوافدون لمصافحة المرشد الأعلى في طهران، واحتضان الملالي في قم.
ما يجب أن يقلق العرب ليس أن تصبح إيران قوة إقليمية، فهي بالفعل كذلك منذ غزو العراق عام 2003، وإنما هو فشلنا وعدم قدرتنا على امتلاك مشروعٍ إقليميٍ متكامل، يمكنه تحصين وحماية مصالحنا، وأن يكون لنا الثقل والتأثير والنفوذ الموجود لدى إيران على المستويين، الإقليمي والدولي. ففضلاً عن ضعف مناعتنا الداخلية، إن بسبب البنية السلطوية للدولة العربية وفشلها في احتواء قواها وحركاتها وأقلياتها، أو بسبب مشكلاتنا وصراعاتنا البينية التي تتفجر بين حين وآخر.
ولنكن صرحاء مع أنفسنا، فالاتفاق بين إيران والقوى الغربية يعكس، من بين أمور أخرى كثيرة، اعترافاً صريحا بقوة إيران، وتأثيرها في المنطقة. وهو اعتراف، وإن كان مجرد تسليم بأمر واقع، فإنه يعكس تحولات ميزان القوى الإقليمي الذي بدأ قبل حوالي عقد، وازداد وضوحا في الأعوام القليلة المقبلة. ناهيك عن حالة الانكشاف والخلل التي تعيشها دول عربية كثيرة منذ بداية "الربيع العربي"، وانشغال كثير من أنظمتنا في قمع حركات التغيير ومطالبه، ما أدى إلى استنزاف الكثير من قوتها ومواردها، وانعدام تركيزها في اللعبة الإقليمية.
ولا أستبعد أن يلي التطبيع الغربي مع إيران، إن حدث، وهو أمر يبدو صعباً الآن، وإن لم يكن مستبعداً، زيادة الخلاف والانقسام في المعسكر العربي، أكثر مما هو عليه الآن. وأقصد هنا احتمال هرولة دول عربية للتطبيع مع طهران، إن لم يكن طمعاً في الحصول على جزء من "الكعكة الاقتصادية" والاستثمارات الكبيرة المتوقعة فيها، فعلى الأقل استجابة لضغوط حلفائها الغربيين.
بكلمات أخرى، إذا سارت الأمور على هوى طهران والقوى الغربية، وتم تطبيع العلاقة بينهما، فسوف تكون لذلك آثار وخيمة على العلاقات العربية-العربية، وقد تخسر الدول التي دخلت في صراع صفري مع طهران حلفاءها وشركاءها الذين سوف ينصرفون باتجاه نظام الملالي.

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".