العراق ولعنة النفط

02 يوليو 2014
+ الخط -

تعرفت في أثناء اقامتي في العاصمة الإيطالية، في ثمانينيات القرن الماضي، على سفير دولة خليجية، كان يجاورني في السكن، وانعقدت بيني وبينه صلة وطيدة، نتيجة اهتماماتنا الفكرية والثقافية المشتركة، ومتابعاتنا اليومية لهموم ومشكلات بلداننا، وكان يندر أن يمر أسبوع من دون أن نلتقي أكثر من مرة، نتبادل فيها الآراء بخصوص ما يجري، وما يحيط بنا، وكانت له نظريته الخاصة في تفسير الأحداث، يسميها هو "النظرية النفطية"، يسقطها على كل ما يواجهه العراق من أحداث ومتغيرات، فهو يعتقد جازماً أن كل ما يجري عندنا سببه أن بلادنا تعوم على بحيرات من النفط، وهذا من سوء حظنا كعراقيين، ولولا وجود النفط عندنا، لما أصبحت عيون العالم علينا!
وكنت أتفق مع صديقي، أحياناً، وأخالفه، في أحيان أخرى، لأنني أعتقد أن ثمة عوامل متداخلة في كل حدث، بعضها منظور وبعضها كامن يؤثر في تشكيل الحدث، وفي قولبته، لكنه كان يصر على نظريته، شارحاً لي كيف حلت لعنة النفط على هذا البلد منذ أزمان موغلة في القدم، حيث كان البابليون، قبل آلاف السنين، قد عرفوا استخدام النفط الأسود الذي كان يتدفق من باطن الأرض في مواسم معينة، وحين اشتعلت النار الأزلية في كركوك عام 550 ق. م. أخذ الرعاة يتجمعون من حولها في فصل الشتاء "بحثا عن الدفء، كما تزورها النسوة طلبا للبركة وطرد الشر، وقد ظلت مشتعلة إلى يومنا هذا، وستظل حتى نضوب آخر قطرة! "
ويستطرد صاحبنا في شرح نظريته، ليقول لي إن الأغراب حاولوا السيطرة على نفطنا، ابتداءً من الألمان الذين أقنعوا مدحت باشا، والي بغداد عام 1860، بمشاركتهم في استخراج كمياتٍ من النفط في منطقة مندلي في شرق بغداد. في حينها، فتحت رائحة النفط شهية الشركات الفرنسية والألمانية، ثم التركية التي قدمت إلى العراق، ليكون لها حصة في الثروة الواعدة، حتى أعلن الانجليز بشارة اكتشاف النفط عام 1923، وبدأوا استخراجه على نحو تجاري محدود عام 1934.


كان صاحبنا لا يكل، ولا يمل، من تكرار هذه الشروح التاريخية أمامي، ليقنعني بصواب نظريته، وعلى الرغم من أن ظروف الحياة باعدت بيني وبينه، إلا أننا بقينا على تواصل عبر الهاتف والبريد الإلكتروني، إلى أن توفاه الله قبل سنوات ثلاث، وكان كلما حدث طارئ في العراق، وما أكثر الحوادث الطارئة عندنا، حتى كان يهاتفني ليقول لي "أما قلت لك إن النفط هو السبب؟"
آخر مرة التقيته فيها كانت في صيف 2007 في عاصمة عربية، بسط خارطة العراق أمامي، وبدأ يشرح كعادته: كل الأحداث التي مرت بكم سببها لعنة النفط، فقد أمم العراق نفطه عام 1972 ، وأثار ذلك غضب الغرب، كان على أميركا أن تقود هجوما مضاداً لئلا تنتقل جرثومة "التأميم" إلى دول عربية أخرى، بدأت حملتها بمحاولة استمالة العراق والتأثير على قراراته، أطلق الاعلام الغربي على صدام حسين تسمية "رجل العراق القوي"، داعب هذا اللقب غرور الرجل، وزاد من أوهام القوة لديه، وعندما أصبح الرجل الأول في الدولة والحزب، كان الحلم بامبراطوريةٍ عربيةٍ، لا تغرب عنها الشمس يداعب خياله، جاءت ثورة إيران "الإسلامية" لتدفع المواجهة بين إيران والعراق إلى مداها الأقصى.
يستطرد: لا يهم من بدأ الحرب، أسواق النفط اشتعلت، وأسواق السلاح أيضا، وحين انتهت الحرب لم يكن فيها منتصر، كلا الطرفين كانا مهزومين!، انها لعنة النفط. مرة أخرى، دفعت أوهام القوة صدام حسين إلى مغامرة جديدة، غزا جارته الكويت، بعد أن قلد أميرها أعلى وسام عراقي، لمساعدتها له في حربه مع إيران، لم تكن واشنطن بعيدة عن قرار الغزو، فقد أوحت له السفيرة الأميركية في بغداد بأن بلادها لن تتدخل في العلاقة بين بغداد والكويت، ومرة أخرى، اشتعلت آبار النفط في كلا البلدين، إنها لعنة النفط.
صمت السفير الخليجي قليلاً، ثم واصل كلامه: لديكم أفضل احتياطيات النفط وأرخصها كلفة، ولذلك، ستظل شهية العالم مفتوحة عليكم، كل الحروب التي خضتموها، وكل الثورات والانقلابات التي صنعتموها كانت وراءها لعنة النفط، وكنتم تديرونها بالوكالة، نيابةً عن قوى عالميةٍ، لا يسمح لها وضعها الإمبراطوري بالظهور في الصورة. أخيراً، انتبهت شركات النفط التي تصنع الحكومات، إلى أن كل شيء يمكن أن يفلت من يدها، فغزتكم في إبريل/نيسان عام 2003. كان هدف الغزو هو النفط. هل تعلم أن اجتماعات سرية سبقت الغزو بين ممثلين لشركات النفط العالمية وبعض معارضي صدام حسين، وأن العراقيين قالوا لممثلي الشركات بالحرف: "أعطونا سلطة العراق، ولكم النفط"! وها قد تحقق كل شيء، والقادم بالتأكيد سيكون أسوأ".
كانت العبارة الأخيرة أشبه بانذار، صمت بعدها السفير، وصمتُّ أنا.
بعد "غزوة الموصل"، وعندما تصاعدت الأحداث، وتشابكت مساراتها، وجرى أكثر من حديث عن تقسيم البلاد والعباد، ووصلت أولى شحنات النفط العراقي إلى إسرائيل، فكرت لو كان صديقي حياً، لهاتفني من أي مكان، ليقول لي: أما قلت لك أن لعنة النفط ستلاحقكم إلى أن تنضب آخر قطرة؟  

دلالات
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"