العراق لاعباً على الحبال

08 ابريل 2019
+ الخط -
مهما تغيرت الظروف والتفاصيل، فإن المهارة الأساسية في السياسة العراقية هي قدرة السياسيين، أفراداً وأحزاباً، على بناء علاقة جيدة مع الولايات المتحدة وإيران في الوقت نفسه. على هذه المهارة في اللعب على الحبلين، الأميركي والإيراني، تعتمد حظوظ القوى السياسية العراقية في تحقيق مصالحها واحتلالها المناصب العليا في الحكومة العراقية. ومع تزايد الضغط والعقوبات الأميركية على إيران، كان متوقعا أن تدخل الطبقة السياسية في مرحلة اختبار واختيار صعب، لكن ما حدث كان أقل من المتوقع، فقد باركت الولايات المتحدة الأميركية الانتخابات العراقية العام الماضي، على الرغم من أن نسبة كبيرة من العراقيين قاطعتها بحركة احتجاج واضحة، وقد أفرزت الانتخابات حكومة على رأسها سياسيون من البارعين في بناء علاقة جيدة مع طهران وواشنطن. وقد زار أحد هؤلاء، وهو رئيس مجلس النواب، محمد الحلبوسي، واشنطن أخيرا، وسط تسريبات عن أن العراق سيطرح على الولايات المتحدة فكرة استثنائه من العقوبات على إيران في مقابل عدم طرح أي قانون يطلب انسحاب القوات الأميركية من العراق.
من الجانب الأميركي، لا يريد ترامب الانسحاب من العراق، بل يؤشر كل ما يصدر عن 
الإدارة الأميركية إلى بقاء طويل الأمد في العراق. لقد هاجم ترامب دائما سلفه الرئيس باراك أوباما، وحمله مسؤولية صعود خطر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لأنه انسحب من العراق. وإذا كان ترامب قد أعلن الانسحاب التام من سورية، على الرغم من التعديلات التي حصلت بعد ذلك، كما ويرغب بالانسحاب من أفغانستان، فإن العراق موضوع مختلف، ولعل من جديد الإشارات الواضحة قول ترامب إنه سيراقب إيران من العراق.
وهنا يجب التذكير بأن قرار الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، الانسحاب الكامل من العراق، وعدم ترك بضعة آلاف من قواته هناك، كان بسبب رفض القوى السياسية العراقية منح القوات الأميركية لحصانة قانونية، تحميها من المساءلة أمام القانون العراقي. ولذلك، لا تريد أميركا التي أعلنت توا أنها أنهت خلافة "داعش" لا تريد مضايقة سياسية من العراق، تعرقل وجودها العسكري في سنوات ما بعد "داعش".
يتصدّر التيار الصدري، بزعامة مقتدى الصدر، المساعي النيابية لتشريع قانون الانسحاب منذ أشهر، لكن المشروع لم يتقدم كثيرا بسبب حذر الأحزاب الشيعية الأخرى الأكثر رغبة وخبرة من الصدر في التنسيق بين واشنطن وطهران، وأيضا بسبب رفض المجموعات الكردية والسنية له. فالكرد، على الرغم من أنهم أصدقاء تاريخيون لإيران، لا يخفون رغبتهم في استمرار الوجود العسكري الأميركي على الدوام، وعندما تمت مناقشة فكرة الانسحاب في عام 2011 كانوا الطرف العراقي الوحيد الذي دعا إلى عدم الانسحاب الأميركي. أما السنة المشتتون سياسيا على الدوام، فيتنازعهم حاليا اتجاهان، سياسي يميل إلى تنسيق أكبر مع إيران وحلفائها من أجل المكاسب، والثاني شعبي مؤيد لوجود عسكري أميركي يضمن، وفق قناعتهم، عدم
 عودة المأساة التي خلفها احتلال تنظيم داعش مناطقهم والأعمال العسكرية التي أخرجته منها. وتقع معظم القواعد العسكرية الأميركية في المناطق ذات الغالبية السنية، وأهمها قاعدة عين الأسد (القادسية سابقا) قرب مدينة حديثة.
شهدت في الأشهر الماضية زيارات متعددة من مسؤولين أميركيين رفيعين، ركّزوا خلالها على ضرورة أن يلتزم العراق بالعقوبات على إيران، ولكن رئيس مجلس النواب العراقي عاد في واشنطن ليقول إن العراق يعتمد على إيران في استيراده الطاقة، وتحديدا الطاقة الكهربائية الحساسة، والتي يثير نقصها الدائم غضبا جماهيريا دائما في العراق. قال الحلبوسي إن بلده يحتاج ثلاث سنوات من أجل تحقيق الاستقلال التام في الطاقة الكهربائية، وبالتالي انتهاء اعتماده على إيران في تزويده بجزء منها.
تحرّكت إيران فعلا لتعزيز علاقاتها التجارية مع العراق، فقد شهدت زيارة الرئيس الإيراني، حسن روحاني، العراق قبل أسابيع، توقيع اتفاقيات كثيرة، وتعهدا برفع نسبة التبادل التجاري بين البلدين إلى عشرين مليار دولار. وقال مسؤول إيراني إن العراق يعد طريقاً مهماً لبلاده لتجاوز العقوبات. يجري هذا كله علناً، ليصبح ترامب وإدارته أمام سؤال الوضع العراقي في ما يخص العلاقة والعقوبات واستراتيجية مواجهة إيران عموما. على الرغم من الاحتلال
الأميركي والسنوات التي تبعته وحجم النفوذ الاميركي المستمر في بلاد الرافدين، فقد كان النفوذ الإيراني مصاحباً دائماً لهذا النفوذ. ليس ترامب، على الرغم من كل صلفه، وميله إلى اتخاذ قرارات سريعة وحادة، في وضع سهل، فيما يخص العراق، فلا هو يستطيع فرض احتلال شامل مرة أخرى، فهو أمر طالما انتقده شخصياً وعارضه، ولا هو يستطيع إقناع القوى السياسية العراقية بأن تصطف مع أميركا ضد إيران بشكل حقيقي، يؤذي إيران فعلا اقتصاديا أو عسكرياً.
براعة القوى السياسية العراقية في اللعب على حبلي أميركا وإيران لا تنكر، ولكن المشكلة أن الشعب العراقي لا يلمس ثماراً لذلك، فالديمقراطية التي يتحدث بها السياسيون العراقيون أمام أميركا، ويحتجون بها في حديثهم عن كتل نيابية تختلف مع أميركا ومصالحها، من المفترض أن تكون نظاما سياسيا يمثل مصالح الناخبين العراقيين. وكلما فشلت في تحقيق ذلك تأزمت الأوضاع في العراق، مهما بلغت براعة سياسييه في اللعب على حبلي أميركا وإيران.
4B109260-05A6-4A15-9F69-C3DBE398FBE4
4B109260-05A6-4A15-9F69-C3DBE398FBE4
رافد جبوري

كاتب وصحفي عراقي، مراسل تلفزيون العربي في واشنطن، له مقالات وبحوث منشورة باللغتين العربية والانكليزية، ماجستير في التاريخ المعاصر والسياسة من جامعة لندن.

رافد جبوري