العراق... غاب الشهود فماتت الحقيقة
كنت أعرف، من قربي من تلك الفصائل، أن القاعدة ليست بالقوة التي ضخّمها الإعلام الدولي، وحولها إلى غول كبير، قادر على أن يلتهم كل شيء، وأيضاً، ليست بهذا السوء، فكل ما انفجرت مفخخة في بغداد كانت القاعدة المتهم الأول، حتى كانت بيانات وزارة الداخلية العراقية أسرع من الانفجار في اتهام القاعدة.
بعد ذلك، بدأت القاعدة تمارس شريعتها، وكان أول من اصطدمت بهم هم رفقاء السلاح، فطلبت من فصائل المقاومة العراقية مبايعة الأمير أبو بكر البغدادي الذي أعلن الدولة الإسلامية بعد ذلك، وهنا دخلت القاعدة في نفقها الأسود، فثارت عليها العشائر، وطردتها قبل أن تعود بزي داعش.
أسوق هذه المقدمة، وأنا أتامل الأخبار القادمة من العراق، بحثاً عن الحقيقة، فيما يرد منها، فعلى الرغم من التغطية الإعلامية الكبيرة التي حظي بها العراق، عقب استيلاء مسلحين، أغلبهم من تنظيم الدولة الإسلامية على نصف العراق، إلا أن الغالب على تلك الأخبار أنها سمعية، ومن شهود عيانٍ، أغلبهم غير حياديين، بل هم طرف في تلك الأزمة، من قريب ومن بعيد.
استمع العالم إلى شهادة النائب عن الطائفة الإيزيدية، فيان دخيل، وكيف ساقت قصصاً عن عمليات إجرامية، قام بها تنظيم الدولة الإسلامية بحق أبناء طائفتها، غير أن العالم أفاق، فيما بعد، ليتبين أن ما قالته فيان كان مبالغاً فيه. وإذا كان من حق نائبة عن طائفة معينة أن تضخم مثل هذه الأعمال والحوادث، لنصرة أبناء طائفتها وإنقاذهم، فمن غير المقبول أن تنقل وسائل إعلام محترمة ما يتردد من أقاويل وكلام عما يجري في سنجار وغيرها، وهنا، لا أدافع عن داعش، فموقفي معروف منها، ولكن، أدافع عن الحقيقة.
بعد أن بدأت عمليات المقاومة في العراق، واستهداف القوات الأميركية، ضاقت، على ما يبدو، جيوش العم سام بالوجود الإعلامي الكبير في العراق، فبدأت، أولاً، وقبل غيرها بعملية التضييق على الإعلاميين، ولعل الجميع يتذكّر معركة الفلوجة الثانية نهاية 2004، إذ قررت وقتها، الولايات المتحدة، أن تمنع أية وسيلة إعلام من تغطية المعركة، ما عدا التي تقوم بمرافقتها، وحتى هذه، فرضت عليها الولايات المتحدة قيوداً، تتمثل بمشاهدة أي تقرير مصور قبل السماح ببثه، وكثيراً ما حذفت لقطات لمصوري قناة "سي إن إن" الأميركية، لأنها لا تتناسب مع رؤيتها للمعركة.
بعد ذلك، أخذ الآخرون، أطراف الصراع المسلح، يضيقون ذرعا بالصحفيين، فكان أن تحول العراق إلى أكثر المناطق في العالم خطراً على الصحفيين، وبقي متربعاً على عرش هذا الإنجاز الدموي سنوات طويلة، فكان أن قرر الإعلاميون مغادرة أرض المعركة، حفاظا على حياتهم.
هنا، لا بد أن أشير إلى حقيقة مهمة، ربما يجهلها أغلب من يتلقى أخبار العراق ويتابعها، وهي أنه حتى الإعلام الأميركي والغربي الذي كان ينقل التقارير من العراق، كان يقوم بهذه المهمة، بالاعتماد على إعلاميين وصحفيين عراقيين، حيث يكون الصحفي الأميركي والغربي جالساً في المنطقة الخضراء، في أحد فنادقها، ويقوم بالاتصال بصحفيين عراقيين، بعضهم ينتمي إلى أحد أطراف الصراع الذي كان يدور، آنذاك، ليكتب تقريراً له، ثم يعيد المحرر الغربي والأميركي إنتاج التقرير ونشره باسمه، في مقابل أن يدفع للصحفي العراقي مئتي دولار، وعرف هؤلاء الصحفيون بـ "بلاك رايتر".
ظاهرة هؤلاء ما زالت موجودة، ولم تعد تقتصر على الصحفيين الغربيين، انتقلت عدواها إلى وسائل الإعلام العراقية المحلية، والتي تحول بعضها مصدراً للخبر العراقي، وتنقل وكالات أنباء معتمدة عنها، حيث تعمد وسائل إعلام عراقية عديدة إلى الاستعانة بصحفيين هواة، أو حتى مبتدئين، لينقلوا لها ما يجري، من دون أن تتوثق من صدقية النقل.
اليوم، وفي ظل التطورات الحاصلة في العراق، لا أحد يعرف حقيقة ما يجري على الأرض، فلقد غاب الشهود، أقصد هنا الصحفيين المحترفين، وباتت أغلب مصادر الأخبار غير موثوقة، الأمر الذي فاقم الأزمة في العراق، فالموصل، على سبيل المثال، التي سقطت بيد داعش منذ العاشر من يونيو/ حزيران الماضي، لا أحد يعرف حقيقة ما يجري هناك، فداعش لن تسمح، بأي حال، بدخول صحفي محايد، وبقي العالم يسمع ما يجري هناك من هاربين أو فارين، لدى بعضهم مقاصد شخصية.
مرة أخرى، الحقيقة في العراق ضحيتنا الكبرى. اليوم، نحن مكبلون، لا نعرف ماذا يجري، لا الحكومة العراقية قادرة على أن توفر لوسائل إعلامها سبلاً للوصول إلى الحقيقة، من دون أن تدس أنفها، ولا المسلحون لديهم النية، أو الرغبة في أن يعرف العالم ما يقومون به، وبين هذا وذاك، يضيع العراق، بعد أن ضاعت حقيقته.