العبودية الاختيارية

11 يناير 2018
العالم يعاني من أسوأ توزيع للدخل والثروة (فرانس برس)
+ الخط -


يقول بعضهم إن العبودية قديمة قدم الإنسان على وجه الكرة الأرضية. وفي مسرحيته الشهيرة "الفرافير"، يؤكد الراحل يوسف إدريس أن الناس أسياد وفرافير، ومن لم يكن سيداً فهو فرفور بالطبع.

وفي أدبنا العربي، نتحدث عن العبودية كما جسّدتها حكاية عنتر الذي أملى لونه عليه أن يكون مطيعاً لوالده، على الرغم من إنكار الأخير أبوّته. ودرسنا أن الإمبراطوريات قامت كلها على استعباد الشعوب المقهورة أو المهزومة في الحروب.

في الولايات المتحدة، بذلت محاولات لكي يرموا بذنب الاستعباد على العرب، بصفتهم تجار رقيق، حيث كانوا يخطفون أبناء القبائل الأفريقية في شرق القارة وغربها، ثم يبيعونهم لتجار العبيد الذين يشحنونهم تحت أسوأ الظروف إلى الولايات المتحدة، خصوصا جنوب البلاد، حيث عمل العبيد هنالك في الزراعة. وهذا جعل كلفة الإنتاج الزراعي متدنية جداً.

ولذلك، قام إبراهام لينكولن، الذي يقول مؤرخون قليلون إنه لم يصوّت في أثناء عمله عضوا في الكونغرس لأي مشروع قانون ينصف العبيد، أو يسعى إلى تحريرهم، لكنه عندما أصبح رئيسا، اقتضت مصلحة الصناعيين في الوسط الغربي إيقاف التجارة الحرة مع أوروبا، لأن الصناعة الأميركية لم تكن قادرة على منافسة الصناعة الأوروبية، بينما كانت المنتجات الزراعية قادرة.

وهنا تضاربت مصالح شمال الولايات المتحدة مع جنوبه، ووصلت إلى ذروتها، لما أعلن لينكولن، بواسطة تشريع في الكونغرس، تحرير العبيد،فهاجر هؤلاء بالآلاف المؤلفة إلى الشمال، حيث أصبحوا عمالة طوعية رخيصة في الصناعات، بدلاً من الرق القهري الذي كانوا يقبعون تحته في الجنوب.

ومع أن العالم قد وضع قوانين ومعايير لمنع العبودية، بصفتها اعتداءً على حقوق الإنسان، كما هو وارد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته في باريس الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948، وهنالك تقارير لا تحصى عن ضرورة إنهاء العبودية، مثل "إلغاء العبودية وأشكالها المعاصرة" الصادر عن المفوضية العليا للاجئين عام 2012، إلا أن العبودية ما تزال موجودة في العالم.

ومع أن الدين الإسلامي أكثر الأديان محاربة للعبودية والرق بكل أشكاله، ووضع خطة استهدفت إلغاءها، وأن عمر بن الخطاب هو القائل "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، إلا أن الدول الإسلامية هي أكثر الدول المعرّضة للاتهام بممارسة الرق في أفريقيا وآسيا، خصوصا فقد استهدفت دولاً في منطقة الخليج، وأخرى في غرب إفريقيا.

ولكن هذه تتحدّث عن العبودية القهرية التي يصبح إنسان ما عبداً وعامل سخرة عند شخص آخر، أو مجموعة من البشر سخرة بلا أجر عند مجموعة أخرى. ولكن العبودية المتفشية في العالم هي العبودية التي تأخذ الشكل الطوعي الظاهري، وتدفع فيها بعض الاستحقاقات، ولكن بمقادير زهيدة.

وفي عالم الرأسمالية الحالي، تبين أن العالم بعد الثورة الصناعية الثالثة (موجة الثورة الإلكترونية والاتصالات) يعاني من أسوأ توزيع للدخل والثروة الذي عرفه التاريخ. والسبب، كما فهمنا من توماس بيكيتي وغيره، أن الأجور لم ترتفع قياساً إلى الأرباح التي صعدت في الأربعين سنة الماضية صعوداً كبيراً جداً.

وهذا يعني، بالطبع، أن أصحاب المؤسسات والمدراء التنفيذيين يحققون فوائض كبيرة على حساب الأجور. وهكذا من ناحية عامة، فإن تدني دخول أصحاب الأجور والرواتب قد حوّل هؤلاء إلى رقيق طوعي.

ونرى أن ظروف الحاجة القاسية التي يعاني منها أناسٌ في الدول النامية تضطرهم إلى قبول وظائف بعقود سخرة، فالتباين يظهر بين العقود الموقعة رسمياً، وأحياناً بموجب تعاقد جماعي مع النقابات العمالية، ويقبله العمال من أجور أدنى وامتيازات أقل مما ورد في تلك العقود. هذه الحالة أيضاً تتطابق مع ما يعرف بالعبودية الاختيارية أو الطوعية.

وهنالك بالطبع حالاتٌ تستحق التوقف عندها، وهم الأطفال والنساء. ومما يسهم في الإساءة إلى هؤلاء انتشار الاقتصاد غير الرسمي في دول كثيرة. وفي هذا الاقتصاد البعيد عن أعين الرقابة الحكومية، وحتى الترخيص الحكومي، يتخذ سوء المعاملة والاستغلال صوراً بشعة.

وفي ضوء ازدياد الحروب، وارتفاع حالات التصفية العرقية والتهجير القسري والاقتلاع، يصبح الأشخاص معرّضين لسوء الاستغلال، سواء في أعمال غير قانونية (الرقيق الأبيض، الاتجار بالممنوعات، والتهريب) أو في أعمال تأخذ مظهر الشرعية الخارجي، لكنها في واقعها تمارس مخالفاتٍ جسيمة للمعايير والاتفاقات الدولية.

نمط التجارة الدولي الذي يعطي امتيازات في شروط هذا التبادل للدول، مصدرة المواد المصنعة والخدمات المتقدمة على حساب الدول المصدرة للسلع الزراعية، أو المواد الخام، هو الذي يخلق حالة الاستغلال والعبودية، خصوصا في الدول النامية الفقيرة.

التدهور السريع في أوضاع العمال في العالم، وظروف معيشتهم، وتوسيع قاعدة العبودية، بأشكالها المختلفة، في أسواق العمل النظامية وغير النظامية، سوف يفتح الاحتمالات على تكرار ما حدث في نهايات القرن التاسع عشر والقرن العشرين من احتجاجات وثورات وتطوير لفلسفات اشتراكية جديدة، وتغيير في نمط الاقتصاد الدولي الذي نعرفه.

المساهمون