الظهر... المساحة المنسيّة في الأزياء

07 سبتمبر 2019
"معطف المساء" لبالنسياغا (متحف التاريخ في شيكاغو/Getty)
+ الخط -


نركز في تعاملاتنا اليوميّة على "الأمام"، الوجه والتكوين الأمامي من الجسد الذي يحوي الخصائص التي تميز كل فرد عن الآخر. ففي "الأمام" ملامحنا، تلك التي نخبّئها وراء ستار أو قناع، وهي التي تحددّ من نحن، هي "بيرسونا" Persona، القناع الذي كان يميّز كل أسرة رومانيّة.
هذا الاهتمام بـ"الأمام"، يشكّل أساس نظام الأزياء، بوصفها امتداداً للهويّة والملامح. لكن مع نهاية القرن العشرين، بدأ الظهر/ الخلف يقع محطّ اهتمام المصممّين، بوصفه مساحة مهملة، كانت تُغطّى في القرن الثالث عشر، وعبرها كان يُحدّد الاختلاف بين الأغنياء ذوي الأثواب ذات الظهور المغلقة والمخفيّة، والفقراء والعامة ذوي الظهور المفتوحة.
تغيَّر الأمر مع بدايات القرن العشرين، وبدأ المصممون يركّزون على الظهر، كما في أثواب المصمم الإسباني كريستوبال بالنسياغا Cristóbal Balenciaga، وتحديدًا في مجموعته في الستينيات، إذْ يتشابه الوجه الأمامي للثوب تماماً مع الوجه الخلفي. ذات الأمر في تصاميم الياباني، يوهجي ياماموتو Yohji Yamamoto.



من أزياء ياماموتو (كريستي سبارو/Getty)


هذه العلاقة مع الظهر مستمدَّة من تاريخ الفنّ التشكيلي، فمرئيّة الظهر تضيف لمسة إيروتيكيّة وسحرية على الجسد، سواء كان باقي الجسد عارياً أو مغطّىٍ، فالظهر هو تلك المساحة المكشوفة التي تمكن رؤيتها دون مسّها، وهنا يستفيد المصممون من الطاقة السحريّة للـ"ظهر"، والرهان على التباين بين "المكشوف" و"المُغطّى"، وما هي حدود "الظهر" المباح إظهارها، دون الإغراق في الابتذال، بعكس ما يرتبط بأزياء الرجال. ففي فرنسا، كانت الـ"Vest" الرجالية تتكوَّن من قطعتين، أمامية مزينة وخلفية ثابتة لا يتم تغييرها، مصنوعة من قماش رخيص، كونها مُصمَّمة كي لا يراها أحد.

اكتسَب "الخلف" في السبعينيات وظيفةً جديدة، إذ أصبح مكان وضع الحقيبة ويميّز الطلاب والمسافرين والعساكر، وكأنّه المساحة الوظيفيّة التي تعكسُ القدرة على الانتقال واحتواء أغراض مختلفة. وهنا تظهر مثلاً تصميمات، نيك كلوفيس، عام 1998، في المعطف الذي أنجزه، والذي يحوي ظهره معطفاً آخر، وكأنه صالح لـ"ارتداء" شخص آخر. هذه الدلالات على الانتقال التي تحويها الأزياء، تحيلنا إلى الجناحين اللذين يحلم البشر بامتلاكهما. وهذا ما فعلته مجموعة "كالصبيان" للأزياء، إذ صنعوا رداءً نسائياً رسمياً، يحوي ظهره ما يشبه الأجنحة المغلقة، بانتظار اقتحام العالم تحليقاً.
يحمل تاريخ الظهر ضمن الأزياء بعداً قمعياً. فأغلب الأثواب النسائية منذ عصر النهضة تحتاج مساعدة كي يتم ارتداؤها أو نزعها، كون الظهر يحيوي سحابات أو بكلات أو خيوط لا بدّ من إحكامها أو حلّها. وهذا ما لا يمكن القيام به، بسبب استحالة لمس المرأة لظهرها بشكل كامل. ومن هذا المنطلق، يرى البعض في تصاميم الأثواب رمزاً للخضوع، وكأنها مصممة لتجعل المرأة بحاجة لشخص ما يساعدها دوماً، سواء كان وصيفة أو زوجاً أو عشيقاً. بعكس ثياب الرجال التي لا تحتاج أي مساعدة، ويمكن أن يرتديها ويخلعها الرجل بنفسه. بل إنَّ البعض شبّه الأثواب النسائيّة بسترات المجانين، تلك التي لا يمكن للشخص التحرُّر منها أو ارتداؤها من دون مساعدة من هو أقوى، أي من يستطيع أن "يلمس" الظهر، ويفك زمام المتهم بـ"الجنون". 

تحوَّل الخلف مع الألفيّة الجديدة إلى مساحة للاحتجاج السياسيّ، أشبه بجدار في بعض الأحيان، كحالة المعطف الشهير الذي أنتجته "زارا" عام 2016، والمكتوب على ظهره "أنا حقاً لا أهتم، وأنت؟". نفس الأمر مع معطف المصمم البلجيكي راف سيمونز Raf Simons لعام 2015، إذْ يحتوي ظهره على صورة فوتوغرافية وووسم (هاشتاغ). وكأننا في عالم المراقبة الكليّة، لا بدّ لنا أن نوضح موقفنا دوماً لا فقط من "الأمام"، بل أيضاً من "الخلف"، حين نظن أن لا أحد يلاحق ويتابع ما نفعله.



ميلانيا ترامب ترتدي معطف "زارا" (مانديل نغان/فرانس برس/Getty)
المساهمون