يُوافق اليوم الذكرى الثانية والأربعين لرحيل محمد الطاهر بن عاشور (1879 -1973)، صاحبِ أحد أدَقِّ التفاسير المُعاصرة، بِعنوان "تحرير المَعْنى السَّديد وتَنوير العَقْل الجَديد في تَفسير الكِتاب المَجيد".
وقد بُنيت الأجزاءُ الثلاثون من هذا التفسير الضَّخم على مُصطلح "التحرير" الذي سنسعى هنا إلى تَدقيق دلالاتِهِ ورَبطها بالسياق المعرفي للشيخ.
يعني التحرير أوَّلاً - في اصطلاح الأصوليين والمُفسِّرين - تدقيق مسألةٍ ما بِالنَّظر والتمحيص في أدلَّتها، وتوضيح طُرق استنتاجها، حتَّى تنتفي عنها الشُّبهات وتزول الشكوك. بهذا المعنى، فالتحرير يمثّل تَنقية لِمسار البَرهنة العقلية من مواطن الضَّعف والتهافت. وهو، كَعمل ذهني-مَنطقي، يَضمن استقامَة المعنى المُستَنتَج وتَجانُسَه مع سياق الخطاب القرآني ونظمه، وجملة المبادئ الأولى التي انبنى عليها، فلا يكون ثمة تناقض بينها.
ولِمصطلح التحرير مَعنًى ثانٍ يَتَّصل بأسلوب التعبير والصياغة، إذ يَعرض المُفسِّر ثمارَ نَظره وتأمّله بخطابٍ واضِحٍ جليٍّ، يُزيل مظاهرَ الإبهام والغُموض في النصّ المُفَسَّر. وهذا ما أنجزه ابن عاشور حين عَرَض آراءَ المفسرين السابقين (مثل: ابن كثير والزمخشري والرازي وابن عَطية والقرطبي وابن جرير الطبري...) فَنقَدها ومَيَّزَ ما فيها، ثم عبَّر عن خلاصاته بأصفى عبارةٍ تكشف خبايا المعنى وتوضّحه للقرّاء.
ويَدلُّ المصطلح، ثالثاً، على تَمحيص كتب التفسير السابقة وتَنقيتها مِمَّا عَلِق بها من الروايات التي لا يقبلها العقل والخرافات والإسرائيليات والأخبار الواهية، وكلِّ ما يَتناقض مع العقل عموماً. ما يَعضد هذا المَنزعَ التنويري إضافة الشيخ عبارةَ: "تنوير العقل الجديد" في العنوان تمشِّياً مع مشروعهِ الإصلاحي، الذي تأثَّر فيه بالشيخ محمد عَبده الذي زار تونس سنةَ 1903.
وهكذا فالتحرير بمعانيه الثلاثة (التدقيق في مناهج الأدلة، والتعبير الواضح عنها وإبعاد اللامعقول) مَنهجٌ مُتكاملٌ يُفضي إلى "كَشف المعاني السديدة" باعتبارها مادةً معرفية قويمة، تتماشى مع مَقاصد الدين العُليا وحَقائقه الجوهرية، وتُعين العَقل على إدراك مسالك الحق وقوانين الكون.
لكن، ما يزال هذا الصرح التأويلي بأجزائه الثلاثين أرضاً بكراً ما ارتادتها إلا القلة من أهل الاختصاص، ولَم يُنظر إليه بَعدُ كرافدٍ أساسي في بناء العقلانية الإسلامية الحَديثة، التي إن طُوِّرَت بمنهج فكري مُتوازنٍ أسهمت في تحرير الفكر العربي من مَخاطر الحَرْفيَّة ومضائق الجمود، وساعَدت على إرساء تحرِّر سياسي-اجتماعي هو من متطلبات المرحلة.
ولعلَّ التحرُّرَ السياسي هو المعنى الرابع الذي يترتّب ضرورةً عن المعاني الأولى لـ "التحرير"، وهو ما طوّرهُ ابن عاشور في كتابه "الإسلام وأصول النظام الاجتماعي" وتلكَ جادةٌ أخرى.