الضفة الأخرى من مدينة أين

22 أكتوبر 2014
+ الخط -

في مجموعته الأخيرة، "عظمة أخرى لكلب القبيلة" (2008)، التي نُشرت بعد رحيله عن "دار الجمل"، يستدعي سركون بولص (1944 - 2007) طينةً عراقيّةً قديمة، وسيرة تاريخيّة مفكّكة، ومقولات فلسفية، تطعّم نصوصه بأخلاط حيّة، في حين تبدو لغته طازجة، حداثويّة، بعض مفرداتها منحوتة بتراثيّة توليديّة سرعان ما تذوب في خلطة هندسية فريدة.

فبين "كرسي جدّه" وأعمال أبيه "في حراسة الأيّام"، إضافة إلى السندباد وبغداد وهولاكو و"تو فو" والغناء الشرقيّ المبثوث بين النصوص، يحضر المثل السومريّ القديم: "المدينة التي ليست لها كلاب حراسة يحكمها ابن آوى"، في إحالة إلى السُلطويّة المطلقة للفرد في أنظمة الاستبداد. وكأنّ الحالة الجمعيّة التي تكوّنها الدولة في "الشرق"، ليست إلا قبيلة كبيرة، تتعاظم في المدينةِ المَتن، وتنحسرُ بالحراسةِ الهامش.

هذا بالانتباه إلى رفض بولص للأيديولوجيا، واشتغالهِ على ترميز كوارثها في سياق إنسانويّ مجرّد يُعلي من شأنِ التفكّر والتأمّل في الحياة البسيطة "قرب الأكروبول"، باعتبار الموت الإنشائي ترف خارجي زائد، وأنَّ "الميت في تابوتهِ لا يُطالِبُ بالبلاغة".

"بعد أن تعبوا من الكَدْحِ في طاحونةِ الفقر/ ليموّنوا أهراءَ الطاغية/ هل خجلوا من تركيبة هذا العالم؟/ هل قرفوا من تلك الأكاذيب؟".

وبالنظر في "تحوّلات الرجل العاديّ"، يظهر خيار المجازفة بوصفه خياراً تراكميّاً في مَعْملهِ المطمور الذي طوّر فيه قصيدته النثرية المختلفة، التي تقارب مواضيعها بتقشّف شديد، على طريقة ألن غينسبرغ ومايكل مكلور وغيرهم من شعراء الـ"بيت" الأميركيين الذين أثّروا في تجربته.

إلّا أنّ المسحة الصوفيّة التي تظهر بوضوح في مجموعته "إذا كنت نائماً في مركب نوح" (1988) - اقتبس العنوان من جلال الدين الرومي - تطرحُ تحوّلاً لافتاً على الصعيد النفسي والسيميائي للبنية الكلاميّة ومضامينها، إذ يكسر بها "مجاذيف القصائد" ويغور عميقاً بلغة طُوفانيّة، مُستوية، عبر قصيدة تأسيسيّة هي "حانة الكلب".

مراكمات بولص أيضاً لا تستسلم لمرحلة عمريّة أو نقطة تاريخيّة بعينها بقدر ما تستوقف الزمن بهدوء، وتستكشف المستقبل، وتظل مفتوحة عليه؛ وهي مراكمات الشاعر الذي رأى في سن الأربعين سنّاً مواتياً لنشر مجموعته الأولى، كما خلّف الأخيرة وراءه. هكذا، إذاً، يصل الضفتين في الذكرى السابعة لرحيله، التي تحلّ اليوم، ممتثلاً لفرديّته، ومتماثلاً مع قوله:

"النبعُ/ زجاجة فارغة بعد اليوم/ يا للهول.. أن يُصبح الوداعُ مُتقاعداً/ أن تدخل التفّاحة المشرحة/ أن يُصبح الليلُ فروةً مُحترقة".

المساهمون