الضحايا "الإرهابيون" في قبضة العدالة المصرية

10 سبتمبر 2018
+ الخط -
نطق القاضي المصري بالحكم، فأعاد قتل من قُتلوا برصاص رجال الأمن يومذاك، حين كانوا يشاركون في اعتصام سلمي في ميدان رابعة العدوية قبل خمسة أعوام، وأرسل من بقوا أحياء منهم إلى حبال المشانق أو السجن المؤبد. القاتل حرٌّ طليقٌ، بل مظلومٌ تستوجب دماؤه التي لا تزال تسري في عروقه الانتقام، بإرسال ضحاياه إلى الموت المادي أو المعنوي. لا همّ. سيسيل بعض الحبر على الورق، وستطلق منظماتٌ، مثل هيومان رايتس ووتش، البيانات استنكارا، وقد تصدر مواقف رسمية من هنا أو هناك، ثم تعود الأمور إلى سابق مجراها. قد تعلّق المشانق أو لا تعلق. المحكوم عليهم منسيّون صنفوا في لغة المجتمع الدولي "إرهابيين". هل يحتاج هؤلاء إلى محاكماتٍ عادلةٍ، حتى عندما تتم محاكمتهم بوصفهم ضحايا؟
قد تكون عملية الفض الدموية لاعتصامي ميداني رابعة العدوية والنهضة في القاهرة في أغسطس/ آب 2013، والتي راح ضحيتها حوالي ألف شخص، من أقل المجازر جاذبية للإعلام، على الرغم من أنه لا لبس في هوية القاتل ودوافعه، ولا في سلمية الضحايا وعدم تشكيلهم أي خطرٍ يستدعي استخدام القوة المفرطة. مثل ضحايا عمليات القتل الممنهج في الريف السوري على يد نظام الأسد، لا يثير ضحايا مجزرة رابعة أي تعاطفٍ يستحق الذكر في الإعلام والسياسة الدوليين، باعتبار أن الضحايا الموصومين بالإرهاب أو التطرّف الإسلامي مادّة جديرة بالتصفية، ولو كان في ذلك انتهاكٌ فاضحٌ لحقوق الإنسان التي يتشدّق بها بعض النخبة على مقاييس متباينة أو متضاربة.
أعدّ الإعلام المصري الرأي العام لتقبل بشاعة المجزرة عبر ترويج رواياتٍ خرافيةٍ، منها مثلا مقولة عمليات قتل منظمة، قام بها الإخوان المسلمون ضد مؤيديهم، ودفن جثثهم المحترقة تحت ميدان الاعتصام. نجح التلفزيون المصري الرسمي يوم الفض في الحصول على صورة رجلٍ قدّم على أنه متظاهر يحمل سلاحا لترويج أن المعتصمين مجرمون خطرون. استخدمت صور عمليات حرق كنائس لإثبات الجريمة، في حين كان المجرمون الافتراضيون محاصرين في الميدان. أظهر تحقيقٌ مفصّل أجرته "هيومان رايتس ووتش" أن عملية الفضّ الدموية كانت محضرة بإتقان، ونفذت بحذافيرها من دون عنصر مفاجأة أو مقاومة. مضت أعوامٌ على الحدث، قبل أن تدخل صفاتٌ، مثل "دموية" أو "مجزرة"، إلى خطاب عدد محدود جدا من وسائل الإعلام المصرية. لم يحظ الضحايا بأي تغطيةٍ إعلامية في الإعلام العالمي. دخلوا منطقة العتمة، وبقوا فيها منسيين، إلى أن أصدر القاضي حكمه بالإعدام في حق أي أملٍ بعدالةٍ ما.

مثل ضحايا ميدان رابعة العدوية، يغرق ضحايا البراميل المتفجرة وعمليات القتل والتعذيب الممنهج في سورية في عتمة النسيان أو الإنكار. بات تناولهم في الإعلام نادرا في ما يتعدّى تحليل التبعات الاستراتيجية لقتلهم. وصمهم بمساندة الإرهاب، أو التطرّف الإسلامي، يجعل منهم خطرا قائما يستوجب، أو على الأقل يبرّر، تصفيتهم. في نظر الإعلام، يبدو هؤلاء رعاعا غير حضاريين في عاداتهم الريفية المحافظة وملابسهم الرثّة والجلابيب الطويلة لنسائهم. "الخطر الإسلامي" على العالم بات مبرّرا لكل أشكال الانتهاكات. على الرغم من آلاف الصور والأدلة على عمليات قتل وتعذيب بربرية على يد نظام الأسد، من وثائق سيزر (قيصر) المفزعة عن جثثٍ ممثّلٍ بها إلى مئات آلاف الموقوفين المسالمين الذين تمّت تصفيتهم في أقبية التعذيب في سجون الأسد، ولم يبق منهم سوى وثائق بأرقام تسلّمها أهاليهم، لا يزال قسط واسع من الرأي العام الغربي يرى في الأسد "الشيطان الذي نعرفه"، لا بل يريد بعضهم، مثل الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، إعادة تأهيله رئيسا معتدلا لسورية ما بعد الحرب باسم "سلام مشوّه" سيكون برأيه أفضل من حربٍ متواصلة. أعاد الهجوم على إدلب، حيث آلاف المدنيين ينتظرون الموت، إلى الشاشات صور الأطفال وعائلاتهم، القوت اليومي للحرب، إلى جانب صور الأسد يجول منتصرا في المناطق "المحرّرة". قد يقول قائل: هل هؤلاء فعلا مدنيون؟ ماذا عن الإرهابيين المتخفّين بينهم؟ أليسوا شركاءهم؟
ستمرّ الكارثة الإنسانية في إدلب كما سابقاتها، من دون أي تعاطفٍ يتجاوز مجرّد نشر الصور المريعة للضحايا. ستعلّق المشانق لضحايا الفضّ الدموي لميدان رابعة المدانين، لكونهم ضحايا، في صمت. أليس هؤلاء إرهابيين أو متحالفين مع الإرهابيين؟ قد ينبري أحد منظّري المؤامرة للقول إن كل هـذه الانتهاكات من نسج خيالنا، وإنها ليست سوى وقائع ملفقة. لن يتسنّى لأبواق الإعلام المصري من نجوم "التوك شو" التشفّي بالمظلومين، بعدما قرّر نظام عبد الفتاح السيسي إسكاتهم عبر إطفاء أضواء حواراتهم الدعائية. غطّت هيئة الإذاعة والتلفزيون البريطانية (بي بي سي) خبر الأحكام الجائرة في قضية فض اعتصام رابعة بالقول إن "أعمال عنف اندلعت وأدت إلى مقتل المئات". في عُرف المحطة الذائعة الصيت، لم يُعرف بعد لم اندلعت هذه "الاضطرابات"، كما لم يعرف من قتل من. سبّبت صورةٌ لزعيم حزب العمال المعارض، جيريمي كوربن، يرفع شارة "رابعة" أزمة، إذ استخدمت لتأكيد وجود علاقات تربطه بـ "متطرّفين إسلاميين". قد يقول قائل في مصر: "ما يتحرقوا"، وقد يكون القائل نفسه مناوئا سابقا شرسا لانتهاكات "الإخوان المسلمين" في فترة حكمهم القصيرة، وهو لن يجد مشكلةً في انتهاك حقوق مداني قضية فض الاعتصام في هذا الشكل القبيح. ثم ماذا؟ أليسوا إرهابيين؟
A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.