الصين.. مرآة الغرب المقلوبة

11 مايو 2015
عمل قيد التنفيذ لـ شي لي/ الصين
+ الخط -

لا شك في أن الربيع هو الفصل الأنسب لزيارة جنوب شرقي الصين، لكن إن كنت تريد التعرّف على الجانب الأكثر غرائبية أو إيكزوتيكية في مناخ ذلك الإقليم فعليك المجيء في الصيف.

ستكتشف عندها طقساً هجيناً تتزاوج فيه الحرارة الخانقة مع الرطوبة القصوى، ضبابٌ ثقيل يطبق على الشوارع والحقول في عزّ القيظ، المطر يسقط ساخناً بحيث لا يزعج رواد المسابح المكشوفة، الرطوبة الكثيفة تحوّل الفضاء إلى مستنقع عائم، وحشرات مختلفة بحجم العصافير (حرفياً) تملأ السماء. الزيزان العملاقة تغني ليلاً نهاراً بلا انقطاع.

لكن إن لم تكن من عشاق الـ "إيكزوتيكية"، فيستحسن أن تأخذ علماً بأن معظم السكان الميسورين والطلاب في شانغهاي وهانشو يفرّون في الصيف، ولا يبقى إلا الكادحون والسياح السيئي الحظ ممن أغفلوا عامل الطقس عند اختيار وجهتهم.

لو أتيت في أيار، فأول ما سيلفت نظرك هو العدد الهائل للعرسان الذين يأخذون صوراً في الشوارع والحدائق العامة. كل بضعة أمتار ستقع على زوج منهم في ثياب العرس مع فريق تصوير ومكياج.

صحيح أن الانبهار بالغرب ومحاولة تقليده هو ظاهرة عالمية نجدها بنسب متفاوتة لدى المجتمعات الشرقية، لكن ما يجعل المجتمع الصيني يستحق صفة الغرب الموازي هو استبطان التّغرب بحيث يتخذ سياقاً مستقلاً عن التأثير الغربي نفسه.

تعبير "الغرب الموازي" قد يكون الأنسب لوصف المجتمع في شانغهاي وهانشو. البلد الذي طالما جسّد "الإيكزوتيك" الأقصى في المخيلة الاستشراقية صار اليوم مرآة الغرب المقلوبة: المراهقون يتبادلون القبل في الأماكن العامة، الزبائن في محل البقالة يدفعون بواسطة هواتفهم الذكية، الموسيقى التقليدية انقرضت تقريباً، والعديد من النجوم هُم من متحوّلي الجنس إلخ.

الصين هي إحدى البلدان القليلة التي يضطر الأميركيون إلى إتقان لغتها إن أرادوا الإقامة أو العمل فيها، فالصينيون، على غرار الأميركيين، لا يتابعون كثيراً ما يحصل خارج بلدهم القارة، ولا يتكلمون لغات أجنبية.

من جهة أخرى، لم يعد الفنانون الصينيون منذ وقتٍ طويل بحاجة إلى محاكاة الإبداعات الغربية، بل صار لديهم نماذجهم ومعاييرهم الخاصة. كما أن حضور النجوم ومشاهير الغرب في الإعلام المرئي والمسموع وفي الثقافة الشعبية الصينية هو أقل بكثير من حضورهم في بلدان "الشرق الأوسط".

بعد فترة قصيرة من إقامته، يكتشف المرء حجم الإجحاف الذي يمارسه الإعلام الغربي في حق المجتمع الصيني عبر التركيز على ظواهر استثنائية وتضخيمها وتقديم هذا المجتمع من خلالها.

مثلاً، سبق أن عُرضت عدة حلقات وثائقية فرنسية حول "أسواق الزواج" في شانغهاي، حيث يلتقي الأهل الذين يبحثون عن شركاء لأبنائهم وبناتهم. الإعلام الغربي يصوّر هذه الأسواق والزيجات المدبّرة كما لو كانت القاعدة التي تبنى عليها العلاقات بين الجنسين في المجتمع الصيني، في حين يتعلّق الأمر بظاهرة استثنائية لا تعني سوى فئة هامشية ومتزمّتة.

عدد كبير من الشباب في شانغهاي وهانشو لم يسمعوا حتى عن وجود هذه الأسواق، بينما لا يعدو الأمر بالنسبة لآخرين أكثر من موضوع للتندّر. كما أن ما يسوّقه الإعلام الفرنسي حول تزمّت المجتمع الصيني يتناقض بوضوح مع حضور عدد مهم من متحولي الجنس (وليس فقط مثلييه) بين نجوم الفن والتلفزيون في الصين.

سبق أن رأيت أفلاماً وثائقية أخرى عن قمع الحكومة الصينية لحرية التعبير والممارسة الدينية لدى مواطنيها المسلمين. القليل الذي أعرفه لا يؤهلني للحكم على الموضوع، لكنني فوجئت بمعرفة أن كل الجامعات الحكومية تضمّ مطاعم "حلال" للمسلمين، تموّلها الدولة وتضع العاملات فيها الحجاب ويرتدي العاملون ملابس الـ "ويغور" التقليدية.

غنيٌ عن القول، إن أمراً كهذا لا يمكن حتى تخّيله في فرنسا حيث يدعو الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، باسم العلمانية، إلى فرض مبدأ الطبق الواحد في المطاعم المدرسية نكاية بالتلاميذ المسلمين، بحيث لا يعود بوسعهم اللجوء إلى طبق بديل حينما يتضمن الطبق الرئيسي لحم الخنزير.

في النهاية، هذا لا يعني أن الـ "إيكزوتيك" لا يظهر في أمور أخرى هامشية. مثلاً الصينيون يشربون الماء ساخناً. بوسعك أن تصل وأنت تتصبّب عرقاً إلى منزل صديق لك وتطلب منه كوب ماء فيسخنه لك أو يعتذر لأنه ليس ساخناً كفاية. وكل يوم بعد العشاء ينزل العجائز للرقص على أنغام هادئة في الحدائق والساحات العامة.

هناك أيضاً معتقدات وممارسات تقليدية، على غرار "علم" الأبراج الصينية والطب التقليدي، ما زالت منتشرة بقوة لدى الطبقات الشعبية. لكنها أمور تعتاد عليها بسرعة.

كما أن الفرق في الملامح بين الآسيويين والمتوسطيين مثلاً يتضاءل، ويتراءى لك نسبياً للغاية بعد فترة قصيرة من إقامتك، بحيث تصير تجد بين الصينيين من يذكرونك فيزيائياً بأشخاص عرفتهم في لبنان أو فرنسا.
المساهمون