30 مارس 2020
الصدر بين أميركا وإيران
رافد جبوري
كاتب وصحفي عراقي، مراسل تلفزيون العربي في واشنطن، له مقالات وبحوث منشورة باللغتين العربية والانكليزية، ماجستير في التاريخ المعاصر والسياسة من جامعة لندن.
أجريت الانتخابات النيابية العراقية في مرحلة حرجة ومهمة على مسار العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران، وهما الطرفان الأكثر تأثيرا ونفوذا في بلاد الرافدين منذ عام 2003. وبعد أن وضعت وسائل إعلام عالمية عينها على حظوظ القوى السياسية العراقية الأكثر ارتباطا بإيران في قائمة "الفتح" التابعة للحشد الشعبي واحتمالات فوزها، عادت تقارير الإعلام العالمي لتتعامل مع فوز قائمة "سائرون" التي رعاها زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، بأكبر عدد من المقاعد في البرلمان العراقي على أنه ضربة لإيران. ثنائية أميركا وإيران وعلاقة الصدر بالاثنين تحتاج فهما أكثر دقة. صحيح أن القوة الجماهيرية التي يستند إليها الصدر جعلته الزعيم السياسي- الديني الشيعي العراقي الأقل تأثرا بإيران، إلا أنه لم يخرج عن دائرة نفوذها. ومن السذاجة أن يتوقع أحد أن الصدر سيذهب باتجاه أي خيار استراتيجي، يؤذي إيران في الساحة العراقية، خصوصا مع انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، واقتراب عودة العقوبات المؤلمة على الاقتصاد الإيراني.
تعود جذور الاختلاف (لا نقول الخلاف) بين التيار الصدري وإيران إلى تأسيس التيار من الأصل على يد والد مقتدى، المرجع الشيعي العراقي محمد الصدر، في تسعينيات القرن الماضي. ففي ظل الهيمنة التاريخية لدعاة الدين ذوي الأصول الإيرانية على المؤسسة الدينية الشيعية الأهم، الحوزة العلمية التي تتخذ من النجف مقرا لها، قدّم الصدر الأب نفسه مرجعا عربيا. لكن الصدر الأب لم يدن إيران أبدا، على الرغم من خلافاته هو وأنصاره مع قوىً
سياسيةٍ عراقيةٍ، تدعمها إيران. أما العداء لأميركا فقد كان متأصلا في تأسيس التيار الذي كان مؤسسه يقود أتباعه في خطبه العامة هاتفا: "كلا كلا أمريكا". العداء لأميركا والغرب ورثه الصدر الابن الذي قاد أتباعه إلى انتفاضتين ضد الاحتلال الأميركي للعراق بعد عام 2003. وقد شكلت إيران ملاذا لجأ إليه مقتدى الصدر مراتٍ في أعقاب فشل انتفاضاته ضد قوات التحالف الذي كانت تقوده أميركا في العراق، أو في أعقاب مواجهاته الدامية مع قوى شيعية عراقية أخرى.
في المحيط العربي أيضا، تم استقبال تقدّم الصدر انتخابيا بعاصفة من الترحيب على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ أعرب مغرّدون خليجيون، معظمهم من السعودية، عن ابتهاجهم بفوز الصدر، واعتبروه زعيما ذا توجه عربي. وكان لافتا هنا أن بعضهم أشاد بالصدر، ودان بالمقارنة زعيم حزب الله، حسن نصر الله، على أساس تبعية الأخير لإيران، واستقلالية الثاني المفترضة عنها. لكن الصدر ونصر الله يرتبطان بصداقةٍ متينةٍ، إذ بات الصدر ضيفا دائما على نصر الله في لبنان في السنوات الأخيرة. صحيح أن الصدر تحرك بنشاط في المحيط العربي، إذ زار السعودية والأردن، وبدأ أتباعه منذ مدة يضعون وصف "الزعيم العربي" عند الحديث عنه. ولا ينبغي أن يفهم هذا في سياق ميل الصدر إلى توسيع دائرة تأثيره في المحيط العربي. ولكن ليس على حساب المصالح الإيرانية بالضرورة.
وفي داخل العراق، لم يخف ناشطون من أنصار الصدر إدانتهم أي تدخل إيراني في الشأن العراقي، وعملية تشكيل الحكومة تحديدا. وهذا أيضا يجب أن يُفهم في إطار التنافس ما بين القوى السياسية الشيعية. والصدر، وإن تقدّم انتخابيا، بعيد عن الأغلبية البرلمانية، وقد اتت بعده في الترتيب القوى المدعومة مباشرة من إيران في تحالف "الفتح" الذي يمثل الجماعات الشيعية المسلحة، وبعضها كان جزءا من تيار الصدر، لكن إيران دعمت انشقاقه عنه قبل سنوات. وقد راقب الصدر ذلك باستياء، لكنه لم يدنه علنا. ويتمتع رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، الذي طالما حظي بدعم الصدر، بدعم أميركي، ما يجعله مرشحا لولاية ثانية، على الرغم من حلوله ثالثا في الترتيب الانتخابي، لكنه أيضا ليس معاديا لإيران، بل سيحتاج لدعمها من أجل التمديد.
تدرك الطبقة السياسية العراقية حاجتها لأميركا التي ترعى العملية السياسية في العراق، وتوفر عمليا الدعم والحماية لنظامه السياسي. حتى مع فوز الصدر، ليس متوقعا أن يأتي رئيس
وزراء عراقي من غير دعم أميركي، لكن أدوات إيران تمتد في الوسط السياسي العراقي، وتصل إلى أبعد من البيت السياسي الشيعي، لتشمل الكرد وجزءا من السنة. وموسم مثل هذا، موسم الانتخابات وتشكيل الحكومة، يشهد سباقا بين الأجندات الإيرانية والأميركية في العراق، لكنه دائما ما يصل إلى نتيجة يرضى بها الطرفان. هذه معادلاتٌ سيكون على الصدر أن يجد مكانه ضمنها، كما حصل في الماضي، وهي معادلاتٌ لن تغيّرها النتيجة الانتخابية التي حصل عليها تيار الصدر.
في العموم، يطمح مقتدى الصدر، مثل حيدر العبادي، إلى لعب دور أكبر ضمن الساحة الشيعية العراقية، والامتداد عربيا. ولكن ليس إلى درجة إيذاء إيران فعليا، أو الاصطفاف مع أعدائها، وخصوصا أميركا، في هذه المرحلة الحاسمة من العلاقة بين واشنطن وطهران. صحيح أن أميركا تقول إنها لا تضع إسقاط النظام الإيراني هدفا لها، لكن إعادة فرض العقوبات ستؤدي، على الأرجح، إلى استياء شعبي داخل إيران، وقد تسبب تحديا داخليا للنظام، وهو ما يخشاه أكثر من التهديد الخارجي. في هذه الأجواء، لن ينضم الصدر، مهما تحسنت علاقاته مع أعداء إيران الإقليميين في الشرق الأوسط، إلى محورٍ معاد لطهران، يهدّد وجود نظامها، ويخدم الأميركيين الذي بنى الصدر اسمه وهويته في ساحات قتالهم ومعاداتهم.
تعود جذور الاختلاف (لا نقول الخلاف) بين التيار الصدري وإيران إلى تأسيس التيار من الأصل على يد والد مقتدى، المرجع الشيعي العراقي محمد الصدر، في تسعينيات القرن الماضي. ففي ظل الهيمنة التاريخية لدعاة الدين ذوي الأصول الإيرانية على المؤسسة الدينية الشيعية الأهم، الحوزة العلمية التي تتخذ من النجف مقرا لها، قدّم الصدر الأب نفسه مرجعا عربيا. لكن الصدر الأب لم يدن إيران أبدا، على الرغم من خلافاته هو وأنصاره مع قوىً
في المحيط العربي أيضا، تم استقبال تقدّم الصدر انتخابيا بعاصفة من الترحيب على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ أعرب مغرّدون خليجيون، معظمهم من السعودية، عن ابتهاجهم بفوز الصدر، واعتبروه زعيما ذا توجه عربي. وكان لافتا هنا أن بعضهم أشاد بالصدر، ودان بالمقارنة زعيم حزب الله، حسن نصر الله، على أساس تبعية الأخير لإيران، واستقلالية الثاني المفترضة عنها. لكن الصدر ونصر الله يرتبطان بصداقةٍ متينةٍ، إذ بات الصدر ضيفا دائما على نصر الله في لبنان في السنوات الأخيرة. صحيح أن الصدر تحرك بنشاط في المحيط العربي، إذ زار السعودية والأردن، وبدأ أتباعه منذ مدة يضعون وصف "الزعيم العربي" عند الحديث عنه. ولا ينبغي أن يفهم هذا في سياق ميل الصدر إلى توسيع دائرة تأثيره في المحيط العربي. ولكن ليس على حساب المصالح الإيرانية بالضرورة.
وفي داخل العراق، لم يخف ناشطون من أنصار الصدر إدانتهم أي تدخل إيراني في الشأن العراقي، وعملية تشكيل الحكومة تحديدا. وهذا أيضا يجب أن يُفهم في إطار التنافس ما بين القوى السياسية الشيعية. والصدر، وإن تقدّم انتخابيا، بعيد عن الأغلبية البرلمانية، وقد اتت بعده في الترتيب القوى المدعومة مباشرة من إيران في تحالف "الفتح" الذي يمثل الجماعات الشيعية المسلحة، وبعضها كان جزءا من تيار الصدر، لكن إيران دعمت انشقاقه عنه قبل سنوات. وقد راقب الصدر ذلك باستياء، لكنه لم يدنه علنا. ويتمتع رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، الذي طالما حظي بدعم الصدر، بدعم أميركي، ما يجعله مرشحا لولاية ثانية، على الرغم من حلوله ثالثا في الترتيب الانتخابي، لكنه أيضا ليس معاديا لإيران، بل سيحتاج لدعمها من أجل التمديد.
تدرك الطبقة السياسية العراقية حاجتها لأميركا التي ترعى العملية السياسية في العراق، وتوفر عمليا الدعم والحماية لنظامه السياسي. حتى مع فوز الصدر، ليس متوقعا أن يأتي رئيس
في العموم، يطمح مقتدى الصدر، مثل حيدر العبادي، إلى لعب دور أكبر ضمن الساحة الشيعية العراقية، والامتداد عربيا. ولكن ليس إلى درجة إيذاء إيران فعليا، أو الاصطفاف مع أعدائها، وخصوصا أميركا، في هذه المرحلة الحاسمة من العلاقة بين واشنطن وطهران. صحيح أن أميركا تقول إنها لا تضع إسقاط النظام الإيراني هدفا لها، لكن إعادة فرض العقوبات ستؤدي، على الأرجح، إلى استياء شعبي داخل إيران، وقد تسبب تحديا داخليا للنظام، وهو ما يخشاه أكثر من التهديد الخارجي. في هذه الأجواء، لن ينضم الصدر، مهما تحسنت علاقاته مع أعداء إيران الإقليميين في الشرق الأوسط، إلى محورٍ معاد لطهران، يهدّد وجود نظامها، ويخدم الأميركيين الذي بنى الصدر اسمه وهويته في ساحات قتالهم ومعاداتهم.
رافد جبوري
كاتب وصحفي عراقي، مراسل تلفزيون العربي في واشنطن، له مقالات وبحوث منشورة باللغتين العربية والانكليزية، ماجستير في التاريخ المعاصر والسياسة من جامعة لندن.
رافد جبوري
مقالات أخرى
20 مارس 2020
12 مارس 2020
05 مارس 2020