الصحافيون الشباب في تونس.. عمل حسب الولاءات

26 مارس 2017
(تصوير: شكري بلعيد)
+ الخط -

نشرت النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين منذ قرابة شهرين تقريرها السنوي لسنة 2016، وقد سجّلت من خلاله أكثر من 130 حالة طرد تعسّفي وأكثر من 300 حالة إبلاغ عن عدم تلقّي أجور في موعدها، أو تلقّي أجور دون المتّفق عليه، وقد شملت هذه الحالات تقريبًا 70% من الصّحافيين الشباب.

هذا التقرير يمثّل مساحةً مصغّرة من الواقع المؤسف الذي يعيشه الشباب الصّحافي في تونس الثورة، حيث ما زالت صورة الصحافيّة الشّابة سهام بن عمّار وهي تسكب البنزين على جسدها مهدّدة بالانتحار اعتراضًا على طردها التعسّفي من القناة التي تشتغل بها، عالقة بأذهان كلّ زملائها من المظلومين في القطاع، وهي اختصار لظاهرة أصبحت مستحكمة في الوسط الإعلامي، فلا تجد لها رادًّا ولا مقوّمًا.

سهام هي حالة تربّعت على حافّة اليأس وكادت تنهي حياتها، لكن الكثيرين من زملائها الذين يعيشون في نفس ظروفها اختاروا النضال والصّبر، مثل "و/م" (34 سنة) الشاب الصحافي المتخرّج من معهد الصحافة منذ 2006، والذي يقول إنّه قبل سنوات بدأ تجربة في العمل كمراسل لإحدى القنوات الإخبارية الأجنبية من تونس، وأنّ تجربته كانت مغرية ومثّلت بالنسبة له نقلة مهمة على الصعيد المهني، لكنّه أدرك مع الوقت أنّ عديدًا من الإشكالات بدأت تتكشّف أمامه، خصوصًا في ظل غياب أي ضمانات قانونية في سياق العلاقة المهنية مع القناة التي كان يراسلها، إذ أنّ إدارته  كانت تتعمّد إبقاءه في خانة العمل بالقطعة من دون عقد أو رابط قانوني يحمّلها أي مسؤوليات أخلاقية أو مهنية.

هكذا لخص لنا "و/م" (اعتذر عن ذكر اسمه أو اسم المؤسسة التي عمل بها) تجربته مع الإعلام الخارجي الذي تعمد كثير من مؤسساته اليوم إلى استغلال الصحافيّين المحليين ضمن وضعيات مهنية هشّة لا تستند إلى أي إطار قانوني يحفظ حقوق الطّرفين وخاصّة الصّحافي، وهو ما يترتّب عنه حرمانه من عقد مهني أو راتب قار أو تغطية اجتماعية منتظمة جرّاء سياسات عدد من القنوات الاجنبية التي يلجأ إليها الصّحافي التونسي لعدّة دوافع وعلى رأسها ضعف قيمة الخلاص في حال التعامل مع الصّحافة التونسية والمحليّة.

يضيف و/م: "معاناة الصحافيّين والمراسلين المتعاونين بالقطعة في تونس مع القنوات الأجنبية لا تتوقف عند هذا الحد، حيث يتسبب التأخير المستمر في تحويل مستحقاتنا المادية في تعرضنا لعدة صعوبات، منها التداين الذي نذهب إليه مكرهين دائمًا، ثمّ عدم المقدرة على سداده طوال أشهر قد يتجاوز عددها أحيانًا الخمسة أو الستّة، إلى درجة نبلغ معها العجز التام على تأمين ابسط احتياجاتنا".

"و/ م" يشير إلى أن العمل مع وسائل الاعلام المحلية أيضًا لا يمثّل بدوره بديلًا ناجعًا ولا يحمل في جعبته ضمانات حقيقية لحماية حقوق الصحافيّين.

حال هذا الصّحافي الشاب المتعثّر والمليء بالعقبات قد يكون أفضل بكثير من حال هشام خشيني (38 سنة) الحاصل على الأستاذية في الصحافة والماجستير المهني في الصحافة الإلكترونية والمكتوبة.

يعاني خشيني من البطالة منذ ما يزيد عن السنة ونصف بعد مسيرة مهنيّة طويلة لكنّها متقطّعة، تتخلّلها فترات بطالة تمتدّ إلى أشهر أحيانًا، اشتغل ببعض المؤسسات الإعلامية التونسية بدون أيّ تغطية اجتماعية وبأجر دون المأمول، متعاقد أحيانًا ومن دون عقد أحيانًا أخرى، أي بالتعهّد فقط.

يقول: "عادة ما تكون نهاية التعاقد بصفة فجئيّة ومن دون تبريرات، وكنت برغم ذلك أتقبل الواقع وأنظر إليه بحساب المفسدة والمنفعة لأركن نهاية إلى أنني ربحت تجربة أكثر ممّا كسبت مالًا أو ضمانًا، لكنّ الصحافة لا تحتمل الابتعاد عنها لفترة طويلة وإلّا فإنّ الصّحافيّ يصاب بتبلّد ويبدأ بفقدان القدرة على المواكبة والصّياغة والعمل ككلّ".

يتابع خشيني موضحًا أنّه رافق عدّة مرّات المرصد الوطني للصّحافيّين إلى محافظة القصرين ومحافظة بنزرت، ويفكّر في زيارة مناطق ومحافظات أخرى من الجمهورية بمعيّة المرصد، لتباحث سبل القضاء على ظاهرة تهميش الصحافيين الشبّان في البلاد من خلال تنظيم الملتقيات رفقة خريجي معهد الصّحافة وعلوم الإخبار من الذين يعانون صعوبات في هذا الاختصاص، أهمّها المحسوبية والمحاصصة والتشغيل حسب الولاءات، أو التشغيل الهش سواء كان ذلك على المستوى المركزي أو الجهوي.

يقول نقيب الصّحافيين التونسيّين الناجي البغوري ردًّا على بعض الحالات المشابهة لحالة "و/م" وهشام: "نحن كنقابة تونسيّة للصحافيين نعتقد أنّ أكثر ما يهدّد حرّية الصّحافة والقطاع الصّحافي هو هذا الورم المتمثّل في هشاشة التشغيل والذي يفتح المجال واسعًا أمام الفساد الإعلامي والتحكّم في الصحافيين وتوجيههم والدفع بهم إلى قبول الرشوة والهدايا".

ويستطرد مذكّرًا أنّ النقابة التي يمثّلها تشتغل على مستويين، مستوى آني متوسّط ومستوى بعيد، فعلى المستوى الآني يشير إلى أنّه كانت هناك حالات من الانتهاكات المهنيّة تدخّلت النقابة لحلّها إمّا عبر التفاوض مع مؤسسات الإعلام أو عبر مقاضاتها، كما أنّه لدى النّقابة في هذا الصّدد عشرات القضايا المطروحة أمام قاضي الشّغل، مشيرًا إلى أنّها تضع على ذمّة المتظلّمين محامين متمرّسين في مجال قضايا الشّغل من أجل مواجهة هذه الانتهاكات.

أمّا على المستوى المتوسّط فقد تمّ الاتفاق مع الحكومة التونسيّة يوم 14 يناير/كانون الثاني الفائت على تخصيص 5% من الإشهار العمومي لفائدة الصّحافيين وفق تعبيره، وهذا الإشهار يضاهي مبلغًا سنويّا بـ20 مليون دينار ستخصّص للذين يعانون من الطّرد التعسّفي أو يشتغلون في وضعيّات هشّة، ستقدّم لهم كمنح ومساعدات.

ينهى البغوري حديثه: "لا يفوتنا التذكير بأنّ كلّ هذه الحلول هي حلول ترقيعيّة ومجرّد مسكّنات، والحلول النهائية لا يمكن أن تتمثّل في غير عمل الصّحافيين في قوانين واضحة ومنظّمة يقع احترامها، ونحن الآن سنبعث في القريب العاجل مجلسًا للصحافة من صلاحياته وضع معايير إسناد الإشهار العمومي ومن بين هذه المعايير اتفاق قانون الشغل وأي مؤسسة إعلامية لا تحترم قانون الشّغل والاتفاقيات المشتركة والعقود فإنّها ستحرم وجوبًا من الإشهار العمومي، لهذا سوف نجد كلّ الآليات للحد من هشاشة الوضع المادي والاجتماعي عند الصحافيين ككلّ، خاصّة الشباب منهم".

كثيرون من أهل الاختصاص يشيدون بمجهودات النقابة الوطنيّة للصحافيين التونسيين، ولكن عدد الحالات الاجتماعيّة لصحافيّين كـ "و/م" أو هشام خشيني في تزايد مطّرد.

المساهمون