الصحافة في موريتانيا: المشكلة ليست بتلك السهولة (1-3)

11 يوليو 2017
+ الخط -

الحديث عن الصحافة في موريتانيا لا يحيل إلى واقع مؤسسيّ وثقافيّ ومدنيّ يتجسّد وفقًا لقوانين ومعايير محددة متجددة، وإنّما يحيل لواقع غير مؤسسيّ وفوضوي مُصاب بارتباك شديد في تجسيد نفسه داخل ما يُعتبر فضاءً عموميًا. من هناك فالحديث عنها مضطرٌ دومًا إلى التوقف من أجل ملاحظة خفايا واقعها اللامؤطر مرجعيًا، والذي يبعثُ من ثمّ، نتيجة تلك الحالة، على تجهيز الذهن لاستيعاب ما لم يعهده سابقًا.

ليس غيّاب المرجعيات ذلك عند الصحافة في موريتانيا ناشئًا عن فهمٍ واعٍ بنفسه ومجريات العالم الخارجيّ حوله، لأنه في أكثر الأحوال جاء اعتباطًا نتيجة سوء الفهم وانعدامه. وبقدر ما يبعث ذلك الغياب شبه الكليّ للمرجعيات المهنية المؤطرة على التشكيك المُلحّ في وجود ممارسةٍ صحافيّة عمومية بالبلاد، فإنه أيضًا يستدعي، بشكلٍ سريع، تقديم وتنفيذ سياساتٍ إصلاحية ينتظرها جميع المهتمين الجدييّن بأملٍ كبير.


مشكلة طرح السائد للمشكلة
يجري الحديث الرسميّ وغير الرسميّ في موريتانيا عن الصحافة بوصفها "حقلًا" يتمتّع باستقلاليةٍ ذاتية، وغالبًا ما توافق ذلك الحديث مع مطالبةٍ شبه عمومية بـ"تنقيته" من كل الآفات والنواقص الموجودة فيه، حتى يكون نقيًا بالكامل، بمعنى محققًا للمطلوب منه مهنيًا وثقافيًا وتوعويًا، على أكمل وجه، كما في نماذج/تجارب عالمية عدة تعتبر رائدةً. مع ما يعكسه ذلك التصوّر الأداتي للممارسة الصحافية، كـ"حقل مستقل"، من قصورٍ منهجي بيّنٍ، فهو يشكل جزءًا من المشكلة التي تعيش الصحافة في البلاد. فغالبًا ما كان التركيز في المطالبة على تنقية الحقل وإصلاحه قائمًا على فصله بشكلِ مطلق عن كل المجالات الأخرى التي يتكوّن منها الميدان العام، وكأنّ المسألة سهلة لدرجة القيام بإصلاحِ ذاتي سريع بلا أبعاد سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية عامّة.

التعبير عن ذلك الفصل، القائم على افتراض استقلالية وهميّة لحقل الصحافة، يأتي في بعض الأحيان ضمنيًا وفي بعضها الآخر صريحًا. وهو في كلتا الحالتين يلجأ عمدًا إلى تسطيحِ آليّ لمشاكل الصحافة المتشعبة والمركبة جدًا، تجنبًا لأيّ طرحِ جذري يطالب بإصلاحِ حقيقيّ لا بد أن يأخذ أبعادًا سياسية واجتماعية واقتصادية واعية في تشابكها مع مجريات الواقع الحاضر المختلط المسالك. وفي الحقيقة، إنّ أي إصلاحِ صحافيّ حقيقيّ لن يتحقق مالم يتجسّد، أوّلًا أو بالموازاة معه، تحقيق إصلاحِ سياسي واجتماعي عمومي قائم على الحرية والعدالة والمساواة كلازماتٍ مبدأية لأيّ شيء في ذلك الصدد.

لكن ذلك ليس متحققًا، فالطرح السريع والتسطيحي لمشكلة الصحافة السائد حاليًا في موريتانيا يتجنب أيّ طرحِ جديّ من ذلك القبيل، خوفًا من التصادمِ مع المنظومات والأدوات والممارسات السلطوية التي تنتج التأزّم الواقعي القائم على شتى الأصعدة. من هنا، فإنه ما لم يتم الاعتراف بتشابك الصحافة المبدئيّ مع قضايا السياسة والثقافة والاقتصاد وغيرها من قضايا راهنة وطنيًا، فإن مشكلة الصحافة ستبقى قائمة دومًا.


ما هي مشكلة الصحافة الآن في موريتانيا؟
يمكن القول إن مشكلة الصحافة في موريتانيا هي مشكلة اقتصادية في الأساس مند ظهرت في منتصف القرن الماضي وتأسسّت فعليًا مع نشوء دولة الاستقلال في ستينياته. ومع ما سيمثله ذلك القول من تسليطٍ للضوء على جزءٍ من واقعها المُفتقد للأدوات والآليات والتكوين والرواتب المناسبة، فإنه لا يوضّح حقيقة المشكلة كاملة. فاليوم جزءٌ كبير من المهتمين بالصحافة في موريتانيا يكادون يتفقون على أنّ مشكلتها هي مشكلة مهنية أساسًا تتمثل في غياب المعايير والخبرات المهنية والصحافية القادرة على تجسيد وخلق ممارسة صحافية حقيقيّة بدون أيّ تشوهات ومشاكل تقلّل من الرصانة وتُفقدها.

على أن الآراء أعلاه وإن كانت تشير بوضوحِ إلى جزءٍ أساسيّ من مشكلة الصحافة في موريتانيا اليوم، فإنها ليست الوحيدة التي سعت لتوضيح مشكلتها. ذلك أنّ جملة من النقاشات التي تطرقت لمشكلة الصحافة حاليًا في موريتانيا لا تفتأ تعلن أيضًا أنّ مشكلة الصحافة تتراوح بين أمرين اثنين: أولهما سياسي، وهو يتمظهر في الهيمنة السياسية المتفاوتة التي تصادر حريتها على أكثر من نحو. وثانيهما ثقافي، ويتجلى في إسقاط المفاهيم والممارسات الثقافية التقليدية على ممارسة الصحافة، الأمر الذي ينزع عنها طابعها المدني والحداثيّ الذي يشكل عماد هويتها. فمن جهة الهيمنة السياسية مثلًا، فإن حرية الصحافة منعدمة، عندما يتعلّق الأمر مثلًا بالوصول للمعلومات المرتبطة بالشأن العام وطرق تسييره لنشرها، إضافة إليها القوانين الفعلية التي تحفظ حق الصحافيين وتؤمن حياتهم في وجه أيّ اعتداءٍ بوليسيّ محتمل؛ أمّا بخصوص الإسقاطات الثقافية فإنّ أخلاقيات الصحافة، التي تعني مبدئيًا الالتزام نحو الحقيقة وكشفها لإنارة الرأي العام، تتحوّل على نحوٍ استغلالي إلى أخلاقيات المحاباة وفق الولاءات الناتجة عن القرابة والانحياز للأقوياء، ذوي المكانة العالية اجتماعيًا واقتصاديًا، على حساب المهمشين.

مند نهاية القرن العشرين والصحافة الموريتانية تشهد تصاعدًا وتكاثرًا ملحوظًا، بلغ ذروته في بدايات العقد الحالي من الألفية الثانية، حين شمل توسّعها وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، إلى جانب المقروءة/المكتوبة من صحفٍ ورقية ومنصاتٍ إلكترونية. هذه الطفرة الإعلامية التي ترافقت مع التطورات الإعلامية والتكنولوجية الهائلة للقرن الحالي، سوّقت عن نفسها في البداية، ما أن ظهرت، طابعًا غير تقليديًا، مثّلت له بكسر نمطية الإعلام التقليدي والخروج من الاحتكارية الرسمية الأحادية وتمثيل جميع المستويات الاجتماعية والسياسية على قدر التساوي.

مع ما شكّله قيام الصحافة بترويج ذلك الطابع غير التقليدي عن نفسها، من أمل لدى كثيرين في أن تصبح ممارسة ديمقراطية تساهم في تحسين حال البلاد، إلاّ أنه لم يشفع بتاتًا في وقايتهم من الإحساس بالخيبة. فما كانوا، في الأمس القريب يتوقعون له مستقبلًا زاهيًا يجدون فيه ذواتهم، ها هو قد أضحى اليوم منفرًا من خلال سماته العامه وشعاراته الزائفة.

المساهمون