في حي الحسين، وهو واحد من أقدم أحياء القاهرة، يعيش الحاج، سلامة محمود، صاحب السبعة والسبعين عامــًا، داخل بيته وورشته (مصبغة صغيرة) في الوقت نفسه، وهو منزل لأسرة مكونة من زوج شيخ وزوجته و12 ابنــًا وابنة و20 حفيدًا.
مُنذ السادسة صباح كل يوم، تستيقظ الأسرة التي تعمل بأسرها في الصباغة، ولا يحصل أفرادها على راحة من أجل تناول الغداء، بل يعملون حتى يأتي ليل التاسعة، ويذهب كل منهم إلى مخدعه استعدادًا ليوم عمل جديد.
امتهن سلامة هذه الحرفة منذ أن كان عمره 8 سنوات، ويقول لوكالة الأناضول: "أردت أن أتعلم هذه المهنة لأن في تلك الفترة كان رجال الشرطة يقومون بالقبض على الشباب الصغار بشكل عشوائي، لكنهم كانوا يتركون من يجدون عليه أثر العمل الجاد، وكانت هذه المهنة تساعد في ذلك، حيث كانت الألوان تملأ يديّ دومــًا، فعندما كانوا يقبضون علي، يتركونني بعدها على الفور لأنني أعمل وأكسب قوت يومي".
ميراث العائلة
الأجيال المتعاقبة في أسرة سلامة توارثت المهنة، ولم يفكر أحد من الأبناء أو الأحفاد، على حد قول سلامة، في العمل في مجال آخر، لأنهم تعودوا على الصباغة، فقد نشأوا في المنزل الذي كان مصبغة منذ زمن بعيد.
فشقيق سلامة مثلاً تعلم الحرفة، بعد أن حصل على شهادة التعليم المتوسط، ثم سافر إلى إحدى مدن دلتا مصر، وقام بفتح مصبغة خاصة به.
عاصر سلامة ملكا وسبعة رؤساء، ويرى أن أفضل أيام عاشها هي أيام الملكية، حيث كانت الحياة بسيطة والسلع متوفرة بأسعار زهيدة وفي متناول كل مواطن، أما الآن فالأسعار مرتفعة للغاية والسلع رديئة.
يقول سلامة: "المصابغ البلدي (اليدوي) من قديم الأزل في مصر منذ الفراعنة، أما المصابغ الحديثة فظهرت منذ فترة الانفتاح، التي قادها الرئيس الأسبق، محمد أنور السادات".
ويضيف: "يأتيني زبائن من أنحاء مصر من الإسكندرية شمالاً وحتى أسوان جنوبــًا، كما أن لي عملاء يأتونني من خارج مصر، فمثلاً توجد لدي عميلة اسمها تريزا من ألمانيا، تأتي إلى مصر بين الحين والآخر حتى تشتري مني بعض الخامات المصبوغة لأنها لا تجد مثلها في بلدها، وعلاقتي بها ممتدة منذ فترة بعيدة، وتوجد صورة لنا معــًا علقتها على حائط المصبغة".
عملية الصباغة هي عبارة عن تلوين الخامة المستخدمة حسب رغبة العميل، بحيث يتم خلط اللون بالماء الساخن ثم تقليبه جيدًا ثم وضع الخامة، والتي قد تكون خيوطــًا حريرية أو صوفاً أو أقطاناً، داخل اللون أكثر من مرة، ثم العمل على عصر هذه الخيوط داخل ماكينة عصر، ثم بعد ذلك يتم تجفيف الخيوط في الشمس حتى تأتي آخر مرحلة، وهي وضع لفافات الخيوط وربطها داخل أكياس كبيرة لتعود إلى العميل.
يقوم العاملون في المصبغة بمهام مختلفة، حيث قام رب العمل، سلامة، بوضع خطة تخصص وتقسيم عمل داخل المصبغة، فتجد الحفيد، سمير، صاحب الخمسة والعشرين عاما الذي يعمل في مصبغة جده منذ كان عمره سبع سنوات، يقوم بخلط الألوان ثم يضع الخيوط داخلها وبعدها يأخذ الخيوط جانبــًا حتى تتشرب اللون، ثم يقوم بوضعها في ماكينة العصر، ثم يحمل لفافات الخيط على كتفه إلى الدور الثاني "سطح المصبغة".
يقول سمير: "مهنة الصباغ ليست مرهقة بدنيــًا، الأمر كله يرتبط بالمجهود الذهني، إذ يجب أن يكون العامل في منتهى تركيزه، لأنه مُطالب بأن يقوم بعمل كميات ضخمة من الخيوط بنفس اللون والدرجة دون أي انتقاص من الجودة، وهذا أمر ليس بسيطـًا".
تحدي التكنولوجيا
أما الابن، مصطفى، صاحب الاثنين والخمسين عامــًا، فيقف في الدور العلوي من المصبغة، تحت الشمس، على ألواح خشبية رفيعة يتحرك من لوح إلى آخر ويرتب لفافات الخيوط الملونة بشكل يساعد على التجفيف سريعـًا.
يقول مصطفى سلامة :"الصباغة اليدوية تعتمد على أفكار الشخص نفسه في كل المراحل، حيث يحصل فقط على اللون الذي يريده المستهلك، ثم يقوم هو، العامل، باستخدام خبرته في خلط الألوان وعصر الخيوط وتجفيفها، في حين أن هذا الأمر لم يعد قائمــًا في المصانع الكبرى، حيث أصبحت التكنولوجيا الحديثة والعلم المسيطرين على مراحل العمل".
وهنا يضيف الحاج سلامة: "الإمكانات مهمة جدًا في العمل، فلا يمكنني أن أنجز عملًا كبيرًا بموارد قليلة. لن أنجح"، وأعرب بعدها عن أمله في أن يمتلك مكانـًا تصل مساحته إلى ما يقرب من الألف متر حتى يستطيع العمل كما يريد.
خلال السنوات الأربع الماضية، كان العمل قليلاً في رأي سلامة، فالثورة لم تضف شيئـًا للبلاد، حيث يرى أن المصريين كان عليهم أن يستمعوا لكلمات الرئيس الأسبق، حسني مبارك، في خطابه الثاني في الأول من فبراير/ تشرين الثاني 2011 عندما طالب بالبقاء ستة أشهر وإلا ستأتي الفوضى. لم ينتظر المصريون هذه الأيام القليلة، يقول سلامة، و"أتت الفوضى".
مصبغة الحاج سلامة هي مصبغة الفقراء، وزبائنه كما يقول "هم الفقراء"، ففي كثير من الأحيان يأتيه زبائن يريدون صبغ بعض الأقمشة البسيطة التي لا يمكن لمصنع كبير أن يقوم بصباغتها.
يحلم سلامة بأن تسير الحياة هادئة معه في الأيام المتبقية له متمنيـًا من الله يكمل حياته بالستر له ولزوجته وأسرته.
الصباغة تاريخ
لم يستطع العلماء والمؤرخون أن يحددوا متى بدأ استخدام الألوان في صباغة الأقمشة، إلا أن هناك عدة روايات تقول إن الصباغة يعود تاريخها إلى ما يزيد عن 4000 سنة في مصر، بعد وجود قماش مُلون في مقابر فرعونية، وإن المومياوات كانت ملفوفة في هذا القماش ذي اللون النيلي.
رواية أخرى تتحدث عن أن أول ما سجل عن تاريخ الصباغة كان عام 2600 قبل الميلاد في الصين، وأن صباغة الصوف بدأت في روما عام 715 ق.م.
كما تشير المصادر إلى أنه حتى منتصف القرن التاسع عشر كانت الألوان المستخدمة في الصباغة تستخلص من الخضروات والنباتات والأشجار وبعض الحشرات، حتى قام الكيميائي الإنجليزي الشاب، ويليام هنري بيركن، عام 1856 باكتشاف أول مادة صباغة صناعية ذات لون الموفين أو الأرجواني الأنيلين أثناء بحثه عن مصل مقاوم لوباء الملاريا.