الشعبوية وسياسات ترامب الخارجية

15 يوليو 2018
+ الخط -
في خطابه الأول خلال مراسم تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة قبل عام ونصف العام، قال الرئيس دونالد ترامب إن "لاحتفال اليوم معنى خاصاً جدًا، لأننا اليوم، لا نقوم بمجرّد نقل للسلطة من إدارة إلى أخرى، أو من طرف إلى آخر، لكننا ننقل السلطة من واشنطن، ونعطيها إليكم مرة أخرى، نعطيها للشعب". وقد مثّل خطاب ترامب الرسمي الأول تدشينا لرؤية شعبوية أميركية تنادي "بأميركا أولا"، معتمدة على صبغة تلائم القرن الواحد والعشرين، مركّزة على قصور وسلبيات ونتائج ظاهرة العولمة التي وجهتها وقادتها بالأساس الولايات المتحدة، سواء تحت حكم الجمهوريين أو الديمقراطيين خلال العقود الأخيرة.
وقد استطاع ترامب الذي جاء مغرّدا من خارج سرب السياسة التقليدية إعادة الحياة للشعبوية الجديدة، بانتصاره الساحق على أكبر مؤسستين سياسيتين قوة ونفوذاً في العقود الأخيرة. والحديث هنا عن عائلة بوش التي مثلها في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري المرشح جيب بوش، وعائلة كلينتون التي مثلتها المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون على بطاقة الحزب في الانتخابات الرئاسية.

وبداية، يمكن تبسيط مفهوم الشعبوية، حركة أو أيدولوجيا أو حتى تكتيكاً سياسياً، تعتمد على خطاب سياسي ديماغوجي، يهز عواطف المواطنين من أجل كسب ولائهم، ولدعمهم ما يُعرض عليهم من سياسات أو توجهات. ولا يُدعم الخطاب الشعبوي الترامبي بمعلومات دقيقة، أو بيانات صحيحة يمكن التحقق من مصداقيتها، إذ إنها تتجاهل عقل المواطن، وتتجه إلى عواطفه بصورة مباشرة.
وقد أظهرت السياسات التي اتبعها ترامب حتى الآن التزاما جادا بشعبوية أميركية جديدة، سواء تعلق الأمر بالشأن الداخلي أو السياسة الخارجية. طالب ترامب في خطاب تنصيبه الشعب الأميركي باتباع قاعدتين بسيطتين، قائلا "اشتروا المنتجات الأميركية، ووظفوا المواطنين الأميركيين"، وهو ما يمثل حجر الأساس في سياساته الداخلية، المرتبطة بسياسات الهجرة وسياسات فرض قيود وضرائب على شركاء واشنطن التجاريين. من هنا، جاء قرار ترامب الانسحاب من اتفاقية الشراكة التجارية عبر الهادئ، ووصف الانسحاب بأنه "شيء عظيم للعامل الأميركي".
وتمتد شعبوية سياسات ترامب إلى ملفات أخرى، أكثر خطورةً وأهميةً من القضايا التجارية، وتتعلق بتهديد النظام العالمي الذي أرست قواعده، وعملت على حمايته وتجديده الإدارات الأميركية المختلفة منذ الحرب العالمية الثانية، وأعتمد على ليبرالية سياسية واقتصاد مفتوح. وليست تلك السياسات بالضرورة وليدة وصول ترامب إلى سدة الحكم في البيت الأبيض، بل خرجت إرهاصاتها وتشكلت منذ عام 2008 الذي شهد حدثين تاريخيين، ساهما بتشكيل التيار الشعبوي الأميركي الذي نجح ترامب في امتطاء قيادته. ففي هذا العام، وقعت الأزمة المالية، وبدأت بسوق العقارات الأميركية، وأثر ذلك على ملايين المواطنين ممن فقدوا وظائفهم أو بيوتهم أو الاثنين معا. وظهرت مرارة كبيرة من سياسات العولمة والتجارة الحرة والميكنة، وساهم الصعود الاقتصادي للصين في مضاعفة مخاوف فئة عمال المصانع وعمال المناجم على مستقبلهم الوظيفي.
وارتبط العام 2008 كذلك بوصول أول رئيس أسود إلى البيت الأبيض، ومثل ذلك تذكيرا للأغلبية البيضاء، خصوصا الرجال منهم، أن التهديدات النظرية بفقدان سيطرتهم التاريخية على الحياة السياسة الأميركية قد بدأت بالفعل. وكان رد الفعل متمثلًا في الوقوع في حضن حركة حزب الشاي المحافظ المتطرفة حتى بمعايير الحزب الجمهوري. هاجم حزب الشاي أوباما، وتبنّى سياسات وخطابات تؤجج العنصرية والتعصب والإسلاموفوبيا. ويمثل ترامب كذلك غضبا واضحا لما شهدته أميركا من تغيراتٍ في النصف قرن الأخير، ولم تكفِ خطابات ترامب العنصرية والفاشية الوقحة ضد كل ما هو غير مسيحي أبيض، كي لا يثني الجمهوريين عن اختياره لتمثيلهم، بل يبدو أنها كانت السبب المباشر والأهم في فوزه الكبير، واكتساحه ممثلاً للملايين من الغاضبين على اتجاه أميركا نحو مزيد من التنوّع العرقي والديني واللغوي.
من هنا، يمكن وضع سياسات ترامب المعادية للمهاجرين، عن طريق تبنيه سياسات متشددة وتصميمه على بناء فاصل على الحدود الجنوبية مع المكسيك، في هذا الإطار. وكذلك سياساته تجاه المسلمين، ومنها إصداره مراسيم رئاسية بمنع دخول مواطني عدة دول مسلمة الولايات المتحدة، وتأييد المحكمة الدستورية العليا لها.
وجاء قرار الرئيس ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبنقل السفارة الأميركية إليها، ليغازل عاطفية القضية ومركزيتها عند تيار مهم من مناصريه المسيحيين الإيفانجاليكال ممن يؤمنون، بناءً على معتقداتٍ دينيةٍ بضرورة عودة الشعب اليهودي إلى أرضه الموعودة في
فلسطين، كل فلسطين، وإقامة كيان يهودي فيها، يمهد للعودة الثانية للمسيح، وتأسيسه مملكة الألف عام.
ويروج ترامب أن بلاده توفر الحماية لدول أوروبا الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، من دون أن تساهم بما فيه الكفاية في النفقات الدفاعية للحلف. ويضغط بكل السبل من أجل رفع مساهمات الدول الأعضاء المالية، ويبدو أنه ينجح في مسعاه.
ويطرح بعضهم سؤالا مفاده: ألا تستطيع المؤسسات الأميركية كبح جماح سياسات ترامب الشعبوية؟ الإجابة معقدة، وليست نعم أو لا. فعلى الرغم من وجود مؤسسات راسخة، إلا أنها جامدة غير متغيرة، ولم تأخذ في الحسبان التغيرات الواسعة التي يشهدها المجتمع الأميركي. مؤسسات مثل المجتمع الانتخابي، وهو المؤسسة التي سمحت بوصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم، على الرغم من تفوق هيلارى كلينتون بما يقرب من ثلاثة ملايين صوت عليه، أو مؤسسة مجلس الشيوخ الذي يساوى بين ولاية مثل كاليفورنيا ذات الأربعين مليون نسمة، وصاحبة الناتج القومي الإجمالي البالغ 2.7 تريليون دولار العام الماضي، وولاية مثل ويومنج التي لا يقطن بها إلا نصف مليون نسمة، وناتجها القومي الإجمالي لا يتعدى 40 مليار دولار. وهذا يمنع أقاليم أميركا الساحلية الليبرالية، والأكثر كثافة سكانيا وأكثر تقدما تكنولوجيا من لعب دور أكبر في منظومة الحكم، إلا أن وقوف ترامب على قمّة الجهاز التنفيذي للدولة الأميركية، وسيطرته شبه الكاملة على تيارات الحزب الجمهوري التقليدية واليمينية، تمنحه قوة إضافية، وتنذر بمزيد من التوتر بشأن سياسات الشعبوية المقبلة.
C80C0F15-4B78-4906-8EEA-DEB8249D0427
محمد المنشاوي

كاتب صحفي مصري في واشنطن متخصص في الشؤون الأميركية