السيسي.. هوس بناء البدائل

20 يونيو 2015
+ الخط -
يطلب رئيس النظام المصري من مواطني بلاده وقادة الدول العربية، التعامل معه، ليس بوصفه رئيساً عاديا، تلك صفة لا تتناسب وطموحاته، ولا مع نوعية الأفعال التي يقوم بها، وإنما التعاطي معه بوصفه منقذاً. وعلى ذلك، ليس من الإنصاف محاكمة أفعاله وسياساته، وفقاً للأصول السياسية وقواعد السلوك السياسي، بل من الأفضل إحالتها إلى المجال الميتافيزيقي، والتبصر بمضامينها الماورائية، أو في أضعف الإيمان، التعامل معها برومانسية حالمة إرضاء للواقعيين والعلمانيين.
لم ينقلب السيسي على رئيسٍ منتخب، وحتى لم تكن الرئاسة في خاطره، إنما مصر التي وقعت على الأرض، بعث الله لها من يوقفها على قدميها، ويهبها الحياة من جديد لتصبح مصر المعاصرة "هبة السيسي". وبذلك، ينقلب ليس على النيل وحده الذي وضعه هيردوت في هذه المكانة، بل ويزيح العقل المصري الذي طالما أنتج ساسة واستراتيجيين على مستوى عالمي، في كل مراحل التاريخ، أو على الأقل، يضع نفسه بديلاً موازياً للنيل ولشعب مصر.
المشكلة في قناعات السيسي أنها ليست مجرد تصورات ذاتية، بل مشكلته في سعيه إلى بناء سرديةٍ، تحتوي تلك التصورات، وتطوي مصر وشعبها ضمنها. وبناء عليه، هو يؤسس لجمهوريةٍ، لا ترى القاهرة عاصمة لمصر، ولا قناة السويس "القديمة" الإنجاز التاريخي الفريد، وما ينطبق على القاهرة والقناة لا يستبعد تطبيقه مستقبلاً على الأهرامات. ولهذا العبث في الجغرافيا السياسية نظير في الجغرافيا الاجتماعية لمصر، وأولى تطبيقاته العبث بالمجتمع السيناوي الذي يعاني من إبادة ممنهجة في تراثه وعمرانه وناسه، وثمّة نماذج تطبيقية، تدار بهدوء ومنهجية، ضد فئات وشرائح مصرية عديدة، بهدف عزلها عن الفعل الاجتماعي، فقط لعدم توافقها مع نماذجه وبدائله المتصورة.
ومشكلته أيضا في محاولته تصميم سياق عربي إقليمي على مقاس رؤاه وتصوراته، وإن أدى ذلك إلى نسف كل المعادلات القائمة والمستقرة على الأرض، بما فيها من قوة موجودة وفاعلة، وحتى لو تسبب ذلك في تهديد الأمن القومي العربي، ليس على المدى البعيد، بحيث يكون هناك هامش زمني، لإصلاح العطل نفسه، وإنما على الراهن، عبر قتل كل ممكناته من جذورها وإحلال بدائل هشة، وإن لم يكن بالمستطاع فصناعة بدائل موازية، فيما يبدو، أنه سلوك عبثي، حتى بمقارنته بنظرية "الفوضى الخلاقة"، النموذج الأخطر في صناعة البدائل.

تتوضح في اليمن وسورية تماماً سياسات السيسي، وتطبيقات نظريته العبثية التي تبدو فاقدة تماماً للإحساس بالزمان والمكان، تماماً مثل افتقادها القراءة الموضوعية للواقع وحركيته وطبيعة القوى الفاعلة والمؤثرة، ضمن لوحة مشهده، وبدل أن ينخرط السيسي ضمن جهود المحور العربي المواجه لإيران بقوة، ويخوض معها حرب وجود، إلى درجة أن أي خطأ في الحسابات من شأنه أن يجر الكوارث على المنطقة، يذهب نظام السيسي إلى التشويش على هذه الحرب، عبر ألعابٍ لا طائل عملاني منها سوى التأثير، بالفعل، على سياقات المجهودات العربية، وتوفير مساحات مناورة جديدة لإيران، وأذرعها كلما استطاع التحالف العربي تخليص مساحةٍ، وإخراجها من هامش اللعبة الإيرانية.
في اليمن، يعترض نظام السيسي على شبكة التحالفات التي تبنيها السعودية، لمواجهة التمدد الحوثي، على الرغم من أن السعوديين أوضحوا له، بكل طرائق التفسير الممكنة، أن خياراتهم في اليمن قليلة، وهذا هو الممكن والمتاح، وهذه أفضل عدّة ممكنة لمواجهة إيران وأذرعها، كما أن ظروف الحرب وعامل الوقت لا يحتملان، بشكل من الأشكال، إمكانية المناورة والتجريب، ولا إمكانية للحسابات السياسية الضيقة، وخصوصاً تجاه الإخوان المسلمين. وعموماً، فإنه في السياسة لا خيارات جيدة دائماً، وإنما خيارات ممكنة وأقل سوءاً، والمشكلة أن الخطأ، في هذه الحالة، ستنتج عنه كوارث في ظل لعبة صراعية دقيقة وخطيرة.
في سورية، يأخذ هوس بناء البدائل في سياسة السيسي منحى خطراً، لا يخفي نفسه، حيث يتكفل السيسي، هنا، ببناء قوة سياسية موازية لائتلاف قوى الثورة والمعارضة، بقصد اجتثاثه وإلغائه، تهيئة لصناعة سياق سياسي بديل للذي يصنعه المقاتلون على الأرض، بجهود خيالية، بحيث يعيد عبره تأهيل نظام الأسد، وتبعا لذلك، إعادة تثبيت ركائز النفوذ الإيراني التي شلّعها الثوار، بدماء مئات آلاف الشهداء. ولتثبيت ذلك، يذهب إلى وضع ثوّار سورية كلهم في كفة الإرهاب، في مقابل كفة جيش بشار الأسد ونظامه، بذريعة الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية، وكأن المؤسسات أهم من الشعب، وكيانات قائمة بذاتها ولذاتها، والدولة التي في خاطره هي مجرد سلطة، في حين أن الشعب ليس أكثر من عامل متغير، يمكن الاستغناء عنه، أو على الأقل عن جزء كبير منه، عبر التهجير والإبادة، فداء لعيون السلطة المقدسة!
صناعة البدائل عملية معقدة جداً، في الغالب البدائل تصنع رجال السياسة، بمعنى حسن اختيارهم للبدائل المتاحة، وقدرتهم على التقاطها تضع بلادهم على سكة النمو والتطور، وتصنع للقادة تاريخا مشرفاً، وغالباً لا يتقصد القادة الناجحون صناعة أمجاد، بقدر ما يكون سعيهم منصباً على إدارة مراحل ومواجهة أزمات، وعلمتنا تجارب التاريخ، القديم منها والمعاصر، أن القادة الذين يحولون سياساتهم إلى سياق صنع زعامة لهم، ينتهون بدمار بلادهم وتحطيمها.

5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".