السوريون ولقاح الموت
طبيب وكاتب ومترجم سوري، يكتب في عدد من الصحف العربية، وعمل بالترجمة مع عدد من دور النشر العربية
لم أستطع، كطبيب، أن أفهم ردود الفعل المختلفة التي ترافقت مع مجزرة اللقاحات في ريف إدلب، لكنني حاولت تفهمها كمتابع للشؤون السياسية في المنطقة. ما إن أعلن خبر وفاة أطفال ملقحين ضد الحصبة في بلدة جرجناز في ريف إدلب، حتى بدأ تراشق الاتهامات الذي طال الحكومتين، السورية المؤقتة والتركية ومنظمة الهلال الأحمر التركية في وقت واحد. لم تكن هناك، ولو إشارة واحدة، في الساعات الأربع والعشرين الأولى، إلى أي متهم "داخلي"، أو أي احتمال لأن تكون المشكلة "سورية". كل ما دار كان مجرد تكريس واستمرار للمزاج "المؤامراتي" الحاكم حالياً.
ومن وجهة نظري كطبيب، كان واضحاً لي أنه ما من لقاح يمكن أن يقتل نتيجة سوء التخزين أو سوء استخدام، وأن ما حدث في ريف إدلب لا يمكن أن يحدث إلا بفعل مادة سمية قاتلة، أعطيت بأيدٍ داخلية لا خارجية، بقصد أو بغير قصد، وبحسن نية أو سوئها. ما لبث أن ظهر أول تقرير للجنة التحقيق في بلدة جرجناز، موضحاً أن حقن لقاح تم حلها، لا بمحلولها الفيزيولوجي المخصص، بل بمادة "الأتراكوريوم" الشالة للعضلات، والتي تستخدم في سياق التخدير الجراحي. لم تتضح بعد كيفية وصول أمبولات هذا العقار إلى مخزون لقاح الحصبة، ولا كيف استخدمها الطاقم الطبي بانتباه، أو من دونه. لكن السؤال الأهم الذي يبدو في حاجة إلى توضيح: من القائمون على هذه الحملة؟ وما مؤهلاتهم ومسؤولياتهم؟ من وضعهم في هذا المكان؟ وعلى أي أساس؟
فجأةً، بردت الحملات التي تطالب الحكومة التركية بالاستقالة، وتتهم منظمة الصحة العالمية بالتآمر، وتشير بأصابع اتهامها إلى منظمة الهلال الأحمر التركية. لا شك أن العالم بأكمله أمسى، الآن، مستعداً لنسيان القضية تماماً، ما دام أن الحقائق كشفت أن المسألة لا تعدو كونها مسألة "سورية داخلية". تلك مشكلة عليهم أن يتحملوها بأنفسهم، وأن يجدوا شماعتهم التي يعلقون عليها دماء 45 طفلاً على الأقل.
يمكن للحادثة أن تكون نموذجاً قياسياً مثالياً، ليبين مدى ميل السوريين (بجميع توجهاتهم) إلى تعليق أخطائهم على شماعات خارجية، وإنكارهم تماماً وجود أي أسباب داخلية، لتعثرهم وضياعهم. ثمة تضمينات بديهية يبثها صناع الرأي العام السوري على الدوام، في أن السوريين يقومون بعملهم على أكمل وجه، فالائتلاف السوري يمثلهم سياسياً أحسن تمثيل، وحكومته المؤقتة تقوم بمهامها كاملة، كما أن كتاب "المؤسسات الثورية" أو "المعارضة" وصحافييها يمتلكون رؤية واضحة لما يجري، والقوى السياسية والمدنية تمتلك خططاً واضحة ومؤثرة وفاعلة في مجالاتها. المشكلة في أن العالم متآمر على السوريين، والمجتمع الدولي يتقاعس عن إنقاذهم، وثمة مؤامرة دولية تحيق بهم جميعاً.
لي أن أتساءل، كطبيب وكسوري، هل كنا بحاجة إلى إراقة دماء 45 طفلاً سورياً أو أكثر، قبل أن تتبدى لنا الحقيقة الواضحة في أنه ما من مؤسسة سورية واحدة تتمتع بالفعالية والمؤسساتية والشفافية، وأن تلك "الأنظمة" التي فرخها النظام السوري هي ما يعيق أي تقدم سوري، على المستويات الاجتماعية والإنسانية، قبل السياسية؟
لا شك في أن هذه المجزرة تذهب إلى ما هو أبعد، فهي ما تزال عاجزة عن تفسير الأرقام الأولية التي تذكر وجود وفياتٍ، لا في جرجناز وحدها، بل كذلك في مناطق أخرى مختلفة من ريف إدلب، كالشيخ بركة، وصراع، وتلمنس، وسنجار وأم مويلات. والتي قد يتم تفسيرها، في كل مكان وزمان، على أنها "أخطاء فردية"، كما كان ديدن المعارضة طوال مسيرتها السابقة. وسواء كانت المسألة جريمة متعلقة بمسؤولية جنائية أم مسؤولية تقصيرية، فلم يعرف من المجرم بعد سوى جنسيته، فلماذا على العالم أن يهتم، إذا كانت المسألة تخص "السوريين فيما بينهم"، وما داموا مصرين على تغطية الإجرام والفساد بين ظهرانيهم، بحجة أن الوقت غير ملائم، وأن الأهم استمرار الثورة، وأن القضاء على الفساد والإجرام أمر غير ملح. لشد ما أتذكّر الخطاب الخشبي للنظام السوري في هذه الأثناء.
سأفترض، متشائماً، أن يستكمل التشبه الكامل بالنظام السوري لاحقاً، بأن تطوى هذه المسألة بعد حين، وتغطى بلفيف من لجان التحقيق ولجان المتابعة ولجان التنسيق. قد لا يكون حدث وفاة مئات الأطفال السوريين حافزاً كافياً لتغيير العقلية المسيطرة على رجال المعارضة السورية، ما دام مئات آلاف القتلى، على مدى ثلاث سنوات، لم يشكلوا حافزاً مشابهاً قبل ذلك. ألا يجب علينا أن نضع "حداً أعلى" للأخطاء الفردية؟
طبيب وكاتب ومترجم سوري، يكتب في عدد من الصحف العربية، وعمل بالترجمة مع عدد من دور النشر العربية