غالباً ما نألف الأمور التي تواجهنا مهما كانت سيئة. فالبشر مفطورون اجتماعياً ونفسياً على التكيّف. في البداية نشعر بدرجات متفاوتة من الألم الجسدي والنفسي. فلكلّ منّا تهيؤ خاص به، وقدرة تحمل، وقابلية. لكنّ الحياة العصرية، خصوصاً في البلدان التي تحاول منذ عقود أن تبني دولة بلا طائل، تواجهنا بما هو أسوأ في كلّ مرة اعتدنا فيها على سيىء.
في الحيّ، الذي يقع في منطقة شعبية في بيروت، وسط المقاهي الشبابية وروائح معسّلها ومدبّسها.. ومن بين المحلات متناهية الصغر، التي توصل النارجيلة إلى أيّ منزل، فتؤسس "تسطيلاً" جماعياً يشترك فيه أولاد الشوارع مع أبناء البيوت، ولا تغيب عنه خطب القادة تعبئهم بالكره كما تتعطر أنفاسهم بنكهات الفواكه المختلفة المنقلبة إلى مرض يسكن في صدورهم وقلوبهم بعد حين...
في الحيّ، وسط مداخن البطالة تلك، كانت المكتبة الوحيدة في الشارع. هي صغيرة جداً. ليس فيها أكثر من واجهة لعرض اللوازم المدرسية في الداخل، ورفوف على الحائط تحمل كتباً دينية. وفي الخارج "ستاند" الصحف اليومية والمجلات. يبرز فيها من الأعلى ما يلائم مزاج المنطقة وهواها، وإن كانت قلة قليلة تقرأ الصحف في هذه الأيام. ويُسأل فيها عن صحيفة ما، فلا يُردّ على السائل إلاّ بعد نظرة لوم ونفور: "لا نجلبها".
المكتبة تلك، بالرغم من بساطتها وسطحية القائمين عليها، وقعتُ فيها قبل سنوات على رواية الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي، المختصرة بـ"المتشائل". لا يخفى على كثيرين أنّ الراوية يكشف عن حالة وسطية لا هي بالتفاؤل ولا التشاؤم، ودائماً ما يردد مع والدته "مليح أن صار هيك وما صار غير شكل". فالسيئ بهذا المعنى، هنالك دائماً ما هو أسوأ منه.
تلك المكتبة أقفلت إلى غير رجعة. وفي الأيام الأخيرة لها، حاول القائمون عليها تصفية ما فيها من كتب قديمة، بعد إعادة المجلات والدوريات إلى شركة التوزيع. لكنّ تلك الكومة من الكتب المتبقية، التي وضعت أمام المكتبة مع إعلان يفيد بأنّ الكتاب بـ"ألف ليرة" لبنانية (0.67 دولار أميركي)، لم يقترب أحد منها. ربما معظم هذه الكتب سيئ بالنهاية، لكنّ أحداً لم يكلّف نفسه بـ"فلفشتها" حتى، لتنقل في النهاية إلى مكبّ النفايات.
أما المكتبة نفسها، فقد تحولت إلى مسمكة تقدم سمكاً نيئاً ومقلياً ومشوياً. و"مليح أن صار هيك" ولم يفتتح مكانها مقهى آخر في الحيّ.
فالسمك يبقى أفضل بكثير من النارجيلة، وكلّ ما يرافقها من طقوس.
إقرأ أيضاً: بضائع مفخّخة
في الحيّ، الذي يقع في منطقة شعبية في بيروت، وسط المقاهي الشبابية وروائح معسّلها ومدبّسها.. ومن بين المحلات متناهية الصغر، التي توصل النارجيلة إلى أيّ منزل، فتؤسس "تسطيلاً" جماعياً يشترك فيه أولاد الشوارع مع أبناء البيوت، ولا تغيب عنه خطب القادة تعبئهم بالكره كما تتعطر أنفاسهم بنكهات الفواكه المختلفة المنقلبة إلى مرض يسكن في صدورهم وقلوبهم بعد حين...
في الحيّ، وسط مداخن البطالة تلك، كانت المكتبة الوحيدة في الشارع. هي صغيرة جداً. ليس فيها أكثر من واجهة لعرض اللوازم المدرسية في الداخل، ورفوف على الحائط تحمل كتباً دينية. وفي الخارج "ستاند" الصحف اليومية والمجلات. يبرز فيها من الأعلى ما يلائم مزاج المنطقة وهواها، وإن كانت قلة قليلة تقرأ الصحف في هذه الأيام. ويُسأل فيها عن صحيفة ما، فلا يُردّ على السائل إلاّ بعد نظرة لوم ونفور: "لا نجلبها".
المكتبة تلك، بالرغم من بساطتها وسطحية القائمين عليها، وقعتُ فيها قبل سنوات على رواية الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي، المختصرة بـ"المتشائل". لا يخفى على كثيرين أنّ الراوية يكشف عن حالة وسطية لا هي بالتفاؤل ولا التشاؤم، ودائماً ما يردد مع والدته "مليح أن صار هيك وما صار غير شكل". فالسيئ بهذا المعنى، هنالك دائماً ما هو أسوأ منه.
تلك المكتبة أقفلت إلى غير رجعة. وفي الأيام الأخيرة لها، حاول القائمون عليها تصفية ما فيها من كتب قديمة، بعد إعادة المجلات والدوريات إلى شركة التوزيع. لكنّ تلك الكومة من الكتب المتبقية، التي وضعت أمام المكتبة مع إعلان يفيد بأنّ الكتاب بـ"ألف ليرة" لبنانية (0.67 دولار أميركي)، لم يقترب أحد منها. ربما معظم هذه الكتب سيئ بالنهاية، لكنّ أحداً لم يكلّف نفسه بـ"فلفشتها" حتى، لتنقل في النهاية إلى مكبّ النفايات.
أما المكتبة نفسها، فقد تحولت إلى مسمكة تقدم سمكاً نيئاً ومقلياً ومشوياً. و"مليح أن صار هيك" ولم يفتتح مكانها مقهى آخر في الحيّ.
فالسمك يبقى أفضل بكثير من النارجيلة، وكلّ ما يرافقها من طقوس.
إقرأ أيضاً: بضائع مفخّخة