كنت أقلّبُ الفضائيات، حين تصدّرت الشاشة امرأة متقدمة في السن، أنيقة، وقورة، تتحدث بصوت واثق عن الهالة الكهرومغناطيسية التي تحيط بأجسادنا، وعن التوازن الداخلي، والطاقة الإيجابية التي تعيننا على تخطي صعاب الحياة. للوهلة الأولى اعتقدت أنّي أشاهد برنامجا علميا حول واحدة من فلسفات الشرق القديم، وجلست أتابع الحديث.
لم تمضِ دقيقة، حتى بدأت الهواتف تنهال على المرأة الوقورة، فتيات بلغاريات من مختلف الأعمار والاختصاصات، يستفسرن إن كنّ واقعات تحت تأثير القوى الخبيثة، يعطينها أسمائهنّ وتواريخ ميلادهنّ، وهي تدوّن المعلومات على ورقة سوداء، تمرّرها فوق كأس نبيذ، طويلة وعميقة، في داخله سائل وشمعة. وبهذا تطرد عنهنّ الطاقة السلبية والسحر الأسود. انتهى البرنامج، والمرأة تكرّر نفس ديباجيتها في الفترة الفاصلة بين مكالمتين، وكنت أصغي وأستغرب، كيف تقع وريثات الفلسفة المادية الجدلية في شرك الغيّبيات؟
سؤالي أعادني إلى ظواهر شبيهة انتشرت في العقدين الأخيرين بين شريحة واسعة من السّوريات المتعلّمات، بدءا من التنجيم وقراءة الكف والفنجان، إلى السّحر وجلسات تحضير الأرواح والتخاطب مع الجان، وعرّف ابن قدامة السحر بأنّه: "عزائم ورقى وعُقَد، يؤثر في القلوب والأبدان، فيُمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، ويأخذ الصاحب عن صاحبه". بينما نفى المعتزلة حدوثه، واعتبره أبو بكر الرازي: "كل أمر خُفي سببه، وتُخِيِلَ على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخُدَع".
بعض صديقاتي وقريباتي المتديّنات وحتى اليساريات المثقّفات، كنّ يتطيّرن من العين الحسود، أو من رؤية بعض الأشخاص، ويحملن التعاويذ، أو يضعن الخرزة الزرقاء. وبعضهنّ يذهبن إلى الشيوخ لإبعاد النحس والجان عنهنّ. ومنهنّ كنّ مقتنعات، أنّ فشلي في العثور على الشريك من أفعال السحر الأسود، أو عفريت مغرم بي. وصادف أنّي عثرت على لفائف وأشياء غريبة، وأنا أنظّف منزلي، ورميتها في سلة المهملات. كما صادف أن قالت لي إحداهن: "انتبهي من صاحبتنا، بتكتبْ". فتحتُ عينيّ، وسألتها: "بتكتب تقارير للأمن"؟ أجابت: "ياريت، بتكتب سحر".
بعد احتلال بغداد، وتدفق اللاجئين العراقيين إلى سورية، سمعت لأول مرة في حياتي بـ "سحر الصابئين"، قالتْ قريبتي: "إنه السحر الحقيقي، يتوارثونه أباً عن جد من أيام بابل"، وقرأتُ على غوغل أنّ الصابئة ديانة تقرّ بتأثير الكواكب على مجريات الأرض ونفوس البشر، نبيها يحيى عليه السلام، وكتابها "كنز الرب"، وذُكرت في القرآن الكريم ثلاث مرات، وذكرها الإنجيل في سفر يوحنا، عند الحديث عن الكهنة الذين رأوا النجمة، وتنبؤوا بولادة المسيح.
لم أجد في المعلومات ما يناقض الرواية التاريخية، أنّ كل حضارات بلاد ما بين الرافدين والشام، قامت على علوم الفلك والحساب، وكانت تؤمن بقدرة الكهنة والعرّافين على مخاطبة النجوم، وفعل المعجزات، منذ الحضارة السومرية في الألف الثامن ما قبل الميلاد، وألواح "جلجامش" الذي انتصر على الوحش الكاسر بمساعدة السحر. هذا جانب جميل من تراث منطقتنا الروحي والمعرفي، علينا أن نصونه، وندرسه، لا أن نتقمّصه من جديد.
صحيح أنّ وجودنا نحن البشر قائم على التواصل والتأثير المتبادل، فيما بيننا وبين البيئة التي تجمعنا، لكن هذا لا يعني، أن نعلّق نجاحاتنا وإخفاقاتنا على شمّاعة الآخرين! ومع الزمن اضطررت إلى الابتعاد عن معظم اللواتي أعرفهنّ حفاظاً على عقلي. مع أني وللأمانة، كنت ولا أزال، أواظب على قراءة برجي في بداية كل عام، لا سيما الذي تتنبأ به الإعلامية وكاتبة التنبؤات ماغي فرح، وأجدني أصدّق حاستي السادسة، وقدرتي على تخمين أفكار من أحب.
في الأعوام الأخيرة التي سبقتْ ثورات العربية، صارت أغلب الأحاديث، تدور حول فوائد الأعشاب والأطعمة والرياضة، وضرورة الإقلاع عن التدخين، واتباع أسلوب الحياة الصحية، على اعتبار أنها إرشادات علمية، كفيلة بحفظ التوازن ما بين الروح والنفس والعقل، وتوليد الطاقة والمشاعر الإيجابية فينا، ثم الوصول بنا إلى امتلاك قدرات استثنائية، كالتخاطر والتنبؤ والتحكم بالآخرين عن بعد.
كنت أسمع، وأشعر كأني في عيادة طبية، وألعن الفيلسوف الألماني ماكس ديسوار، الذي كان أول من أسس لعلم النفس الموازي، وأول من أطلق مصطلح "الباراسايكولوجي" لدراسة الإدراك فوق الحسّي، والظواهر المتصلة به في العام 1889.
ما حاجتنا أن نصبح "سوبرمانات"؟ بشريتنا في ضعفنا، وتمسّكنا بأهداب حياة أقصر من غمضة عين، إعجازها الوحيد، حين يمسّنا الحب بسحره الأبيض (وهنا ليس المقصود السحر الأبيض الذي هو بعكس السحر الأسود، فتكون التعويذة من أجل أمور خيّرة وغايات نقيّة. بل المقصود هو مفعول الحب بشكل عفوي، بسحره الطبيعي، وأعطيته اللون الأبيض ليكون الحب مسالماً جميلاً ونقيّاً)، ويجعلنا نخرج من أنانيتنا، ونصبح فراشات، تفيض بالفرح وإرادة الخير.
حمدّت الله، حين انطلقت الثورة السورية، وانشغلنا بقضايا إسقاط النظام، وبناء دولة الحريات والقانون، ولم يخطر ببالي أن أحاديث ما قبل الربيع، سوف تستقبلني في بلغاريا، وتجعلني أرى الطرف الآخر من حدود الغمامة الكونية، التي أمطرت أعلام "داعش" السوداء التي غيّرت المعتقدات وقلبت معظم الموازين.
ثمة من يحاول تسخير مكتشفات العلم وإمكانات الفضاء الإلكتروني، لنشر قناعات طواها النسيان، أو وضعها الزمن في متحف التاريخ. ثمة من يسعى إلى القضاء على حرية الفكر، وإعادة العقل البشري إلى حظيرة المسلّمات الغبية، فليس هناك أسهل من استلاب أناس تسيطر عليهم الشعوذات، لاغتيال شارلي وأحمد في مكان من عالمنا الصغير.
لم تمضِ دقيقة، حتى بدأت الهواتف تنهال على المرأة الوقورة، فتيات بلغاريات من مختلف الأعمار والاختصاصات، يستفسرن إن كنّ واقعات تحت تأثير القوى الخبيثة، يعطينها أسمائهنّ وتواريخ ميلادهنّ، وهي تدوّن المعلومات على ورقة سوداء، تمرّرها فوق كأس نبيذ، طويلة وعميقة، في داخله سائل وشمعة. وبهذا تطرد عنهنّ الطاقة السلبية والسحر الأسود. انتهى البرنامج، والمرأة تكرّر نفس ديباجيتها في الفترة الفاصلة بين مكالمتين، وكنت أصغي وأستغرب، كيف تقع وريثات الفلسفة المادية الجدلية في شرك الغيّبيات؟
سؤالي أعادني إلى ظواهر شبيهة انتشرت في العقدين الأخيرين بين شريحة واسعة من السّوريات المتعلّمات، بدءا من التنجيم وقراءة الكف والفنجان، إلى السّحر وجلسات تحضير الأرواح والتخاطب مع الجان، وعرّف ابن قدامة السحر بأنّه: "عزائم ورقى وعُقَد، يؤثر في القلوب والأبدان، فيُمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، ويأخذ الصاحب عن صاحبه". بينما نفى المعتزلة حدوثه، واعتبره أبو بكر الرازي: "كل أمر خُفي سببه، وتُخِيِلَ على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخُدَع".
بعض صديقاتي وقريباتي المتديّنات وحتى اليساريات المثقّفات، كنّ يتطيّرن من العين الحسود، أو من رؤية بعض الأشخاص، ويحملن التعاويذ، أو يضعن الخرزة الزرقاء. وبعضهنّ يذهبن إلى الشيوخ لإبعاد النحس والجان عنهنّ. ومنهنّ كنّ مقتنعات، أنّ فشلي في العثور على الشريك من أفعال السحر الأسود، أو عفريت مغرم بي. وصادف أنّي عثرت على لفائف وأشياء غريبة، وأنا أنظّف منزلي، ورميتها في سلة المهملات. كما صادف أن قالت لي إحداهن: "انتبهي من صاحبتنا، بتكتبْ". فتحتُ عينيّ، وسألتها: "بتكتب تقارير للأمن"؟ أجابت: "ياريت، بتكتب سحر".
بعد احتلال بغداد، وتدفق اللاجئين العراقيين إلى سورية، سمعت لأول مرة في حياتي بـ "سحر الصابئين"، قالتْ قريبتي: "إنه السحر الحقيقي، يتوارثونه أباً عن جد من أيام بابل"، وقرأتُ على غوغل أنّ الصابئة ديانة تقرّ بتأثير الكواكب على مجريات الأرض ونفوس البشر، نبيها يحيى عليه السلام، وكتابها "كنز الرب"، وذُكرت في القرآن الكريم ثلاث مرات، وذكرها الإنجيل في سفر يوحنا، عند الحديث عن الكهنة الذين رأوا النجمة، وتنبؤوا بولادة المسيح.
لم أجد في المعلومات ما يناقض الرواية التاريخية، أنّ كل حضارات بلاد ما بين الرافدين والشام، قامت على علوم الفلك والحساب، وكانت تؤمن بقدرة الكهنة والعرّافين على مخاطبة النجوم، وفعل المعجزات، منذ الحضارة السومرية في الألف الثامن ما قبل الميلاد، وألواح "جلجامش" الذي انتصر على الوحش الكاسر بمساعدة السحر. هذا جانب جميل من تراث منطقتنا الروحي والمعرفي، علينا أن نصونه، وندرسه، لا أن نتقمّصه من جديد.
صحيح أنّ وجودنا نحن البشر قائم على التواصل والتأثير المتبادل، فيما بيننا وبين البيئة التي تجمعنا، لكن هذا لا يعني، أن نعلّق نجاحاتنا وإخفاقاتنا على شمّاعة الآخرين! ومع الزمن اضطررت إلى الابتعاد عن معظم اللواتي أعرفهنّ حفاظاً على عقلي. مع أني وللأمانة، كنت ولا أزال، أواظب على قراءة برجي في بداية كل عام، لا سيما الذي تتنبأ به الإعلامية وكاتبة التنبؤات ماغي فرح، وأجدني أصدّق حاستي السادسة، وقدرتي على تخمين أفكار من أحب.
في الأعوام الأخيرة التي سبقتْ ثورات العربية، صارت أغلب الأحاديث، تدور حول فوائد الأعشاب والأطعمة والرياضة، وضرورة الإقلاع عن التدخين، واتباع أسلوب الحياة الصحية، على اعتبار أنها إرشادات علمية، كفيلة بحفظ التوازن ما بين الروح والنفس والعقل، وتوليد الطاقة والمشاعر الإيجابية فينا، ثم الوصول بنا إلى امتلاك قدرات استثنائية، كالتخاطر والتنبؤ والتحكم بالآخرين عن بعد.
كنت أسمع، وأشعر كأني في عيادة طبية، وألعن الفيلسوف الألماني ماكس ديسوار، الذي كان أول من أسس لعلم النفس الموازي، وأول من أطلق مصطلح "الباراسايكولوجي" لدراسة الإدراك فوق الحسّي، والظواهر المتصلة به في العام 1889.
ما حاجتنا أن نصبح "سوبرمانات"؟ بشريتنا في ضعفنا، وتمسّكنا بأهداب حياة أقصر من غمضة عين، إعجازها الوحيد، حين يمسّنا الحب بسحره الأبيض (وهنا ليس المقصود السحر الأبيض الذي هو بعكس السحر الأسود، فتكون التعويذة من أجل أمور خيّرة وغايات نقيّة. بل المقصود هو مفعول الحب بشكل عفوي، بسحره الطبيعي، وأعطيته اللون الأبيض ليكون الحب مسالماً جميلاً ونقيّاً)، ويجعلنا نخرج من أنانيتنا، ونصبح فراشات، تفيض بالفرح وإرادة الخير.
حمدّت الله، حين انطلقت الثورة السورية، وانشغلنا بقضايا إسقاط النظام، وبناء دولة الحريات والقانون، ولم يخطر ببالي أن أحاديث ما قبل الربيع، سوف تستقبلني في بلغاريا، وتجعلني أرى الطرف الآخر من حدود الغمامة الكونية، التي أمطرت أعلام "داعش" السوداء التي غيّرت المعتقدات وقلبت معظم الموازين.
ثمة من يحاول تسخير مكتشفات العلم وإمكانات الفضاء الإلكتروني، لنشر قناعات طواها النسيان، أو وضعها الزمن في متحف التاريخ. ثمة من يسعى إلى القضاء على حرية الفكر، وإعادة العقل البشري إلى حظيرة المسلّمات الغبية، فليس هناك أسهل من استلاب أناس تسيطر عليهم الشعوذات، لاغتيال شارلي وأحمد في مكان من عالمنا الصغير.