السبسي يفتح النار على "النهضة": ضغط أم "حرب" شاملة؟

01 ديسمبر 2018
التلويح بالملف الأمني للضغط على الغنوشي (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -

شكّل انعقاد مجلس الأمن القومي التونسي، أول من أمس الخميس، الذي يشرف عليه الرئيس الباجي قائد السبسي شخصياً بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، موعداً استثنائياً، فلم يكتفِ بالملفات الأمنية المعتادة، وسبقته ترجيحات من مستشارين في الرئاسة بطرح قضية اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي، والنظر في الاتهامات المتعلقة بوجود "تنظيم سري لحركة النهضة" في تقاطع مع هذا الملف.
وفعلاً طرح الاجتماع هذه القضية للبحث، وزادها كلام سياسي من السبسي كشف عن المعركة المقبلة وتفاصيلها. فقد أكد الرئيس التونسي، في كلمة عند افتتاح أعمال المجلس، نشرتها الرئاسة، أن بيان "النهضة" الذي صدر بعد استقباله ممثلين عن هيئة الدفاع عن بلعيد والبراهمي، حمل تهديداً له. وتابع السبسي، "هذا اللقاء (مع محامي الراحلين) أثار حفيظة حركة النهضة... ولن أسمح بهذا التهديد، وسنلجأ إلى القضاء" لمحاكمة الحركة.

ويعتبر هذا الحدث تطوراً سياسياً كبيراً في الصراع الدائر حالياً في تونس، ليس بين السبسي ورئيس حكومته يوسف الشاهد فقط، وإنما خصوصاً بين الرئيس التونسي وحركة "النهضة"، إذ يعتبر أنها تنكرت لعقد التوافق معه، واختارت الشاهد بديلاً له، مع الإشارة إلى أن الشاهد كان حاضراً في اجتماع مجلس الأمن القومي، وهو ما يعني أن السبسي وجّه رسائله للاثنين معاً.

هذه التطورات حصلت بعد أن استقبل السبسي، قبل أيام، ممثلين عن هيئة الدفاع عن البراهمي وبلعيد، أثاروا، في تصريحات نشرتها رئاسة الجمهورية، وجود ما يُعرف بـ"الجهاز السري للنهضة". واستنكرت "النهضة" نشر دوائر الإعلام في رئاسة الجمهورية تصريحات وفد لجنة الدفاع عن البراهمي وبلعيد عقب لقائه بالرئيس التونسي، لما وصفته بالإساءة والتهجمات الكاذبة عليها. وحذّرت في بيان رسمي من "خطورة إقحام مؤسسة الرئاسة بأساليب ملتوية بنيّة ضرب استقلالية القضاء وإقحامه في التجاذبات السياسيّة من قِبل المُتاجرين بدم الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي". وأعربت "النهضة" عن استغرابها من نشر الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية اتهامات "كاذبة ومختلقة وتهجمات باطلة"، صادرة عن أطراف سياسية بنيّة الإساءة للحزب، معتبرة أن ذلك يتعارض مع حياديّة المرفق الرسمي ودور الرئاسة الدستوري الذي يمثّل رمز الوحدة الوطنية وهيبة الدولة، على حد توصيفها.

في المقابل، اعتبر السبسي هذا البيان "تهديداً" له، قائلاً إنه لن يسكت عنه، ومؤكداً أنه بصفته الدستورية يستقبل كل من يطلب ذلك، خصوصاً أن الوثائق التي قُدّمت له "معقولة"، على حد تعبيره.
لكن أستاذ القانون الدستوري جوهر بن مبارك، أكد أن حديث حركة "النهضة" عن إقحام رئاسة الجمهورية في قضية ما يُعرف بالجهاز السري، أمر خاطئ، لأنه لم يتم إقحام رئاسة الجمهورية في الملف، بل إن رئاسة الجمهورية هي التي اقتحمت الملف، ربما في إطار تصفية حسابات. وكشف بن مبارك، خلال استضافته على قناة الحوار التونسي، أن رئاسة الجمهورية هي التي طلبت، منذ أسابيع، لقاء هيئة الدفاع، مضيفاً أن الهيئة رفضت اللقاء أكثر من مرة، قبل أن توافق بشرط دعوة رئيس الجمهورية إلى انعقاد مجلس الأمن القومي، ما يشير إلى أن "الجبهة الشعبية" لا تريد أن تكون مجرد ورقة تهديد يخرجها السبسي في وجه "النهضة" كلما احتاج إلى ذلك.

وتشكّل هذه الحادثة تطوراً نوعياً في الصراع الحالي، فلم يسبق لـ"النهضة" أن وجّهت هذا الانتقاد القوي لمؤسسة الرئاسة من قبل، ولم يسبق أيضاً للرئيس التونسي أن طرح هذا التهديد تجاه "النهضة"، إذ يمثل التلويح بالملف الأمني ضغطاً غير مسبوق من السبسي على حليفه السابق، زعيم "النهضة" راشد الغنوشي، يؤكد أنه ماضٍ إلى استعمال كل ما يقع تحت يديه لمعاقبته من أجل تحالفه الجديد، وإسقاط هذا التحالف بأي ثمن.

وجاء انزعاج "النهضة" من استقبال السبسي لهيئة الدفاع وما رافقه من تصريحات، بسبب الغطاء السياسي الرئاسي الذي يُمنح لأول مرة لهذه القضية، إذ سبق للرئيس التونسي أن استقبل مرات عدة عائلتي البراهمي وبلعيد، ووعد بالبحث عن الجناة، لكنه لم يسبق أن ربط بين هذه القضية وحركة "النهضة"، ما يعني أن الصراع فُتح على مصراعيه، وأن كل الأسلحة أصبحت متاحة وقابلة للاستعمال.

من جهة أخرى، قدّم الأمين العام الجديد لحزب "نداء تونس"، سليم الرياحي، قضية لدى القضاء العسكري ضد رئيس الحكومة يوسف الشاهد، والمدير السابق للديوان الرئاسي، سليم العزابي، ومدير عام أمن رئيس الجمهورية، والناشط السياسي، لزهر العكرمي، بتهمة محاولة الانقلاب على رئيس الدولة، رد عليها الشاهد بتهكّم شديد أثناء تقديم مشروع موازنة العام المقبل، ملمّحاً إلى أن الرياحي "سفيه". في حين قال مستشار للرئيس إنه يبقي على ثقته في مدير أمنه، كما اعتبرت نقابة الأمن الرئاسي أن هذه الاتهامات خطيرة وتقحم المؤسسة في تجاذبات سياسية، مؤكدة احتفاظها بحقها في تتبّع هذه الاتهامات.

ما قاله السبسي تضمّن رسائل محددة لحركة "النهضة"، أولاها أنه لن يتركها لاعباً وحيداً في الساحة ولن يسمح بذلك، والثانية أنه لم يعد لديه ما يخسره وهو في هذه السن (احتفل يوم الخميس بعيد ميلاده الـ92). والرسالة الأخيرة والأهم، أن مجلس الأمن القومي بإمكانه النظر في أي قضية تتعلق بالبلاد، ما يعني أن لديه أوراقاً دستورية وهامشاً واسعاً للتحرك، على عكس ما ذهب في تقييم "النهضة".

وتقوم استراتيجية السبسي على محورين أساسيين، إثارة الملف الأمني في وجه "النهضة"، وضرب تحالفها مع الشاهد، لإدراكه أولاً أن "النهضة" لم تتخلص نهائياً من عقدة المخاوف الأمنية والملاحقات، خصوصاً أن هناك أرضية سياسية مهيأة لذلك من معارضيها، وهم كُثر. ولكنه سيسعى أيضاً إلى ضرب التحالف الجديد وإبراز هشاشته بأقصى سرعة. وسيكون ملف المساواة في الإرث أول المعارك، إذ حوّل البرلمان، أول من أمس، مقترح القانون إلى اللجنة البرلمانية المعنية، لتحيله بعد ذلك إلى الجلسة العامة، وربما يتم ذلك بداية العام المقبل. ولكن أبرز مكوّنات التحالف الجديد، حزب "مشروع تونس" وكتلة "الائتلاف الوطني" أكدا التصويت لصالح القانون الذي ترفضه "النهضة" بشكل واضح، ما يعني أن هشاشة هذا التحالف وعدم تجانسه سيبرزان مع أول اختبار حقيقي، وهو ما يرغب السبسي في أن تصل إليه "النهضة" من استنتاج بعدما فضّلت الشاهد عليه.

ويبقى السؤال متعلقاً بنوايا الرئيس الحقيقية، وإذا ما كانت تذهب في اتجاه الضغط على "النهضة" لإعادتها إلى بيت الطاعة، أم أنه قرر خوض حرب كبيرة وضرب الحركة نهائياً بأسلحة الملاحقة القضائية والأمنية؟ ويتساءل مراقبون عن مدى قدرة "النهضة" على الصمود في وجه كل هذه الضغوط، خصوصاً أن هناك من كان رافضاً أصلاً لقطع العلاقة مع السبسي واستبداله بالشاهد. كذلك تبرز تساؤلات عن المجال السياسي المتاح لبحث توازنات أقل تعقيداً، وإن كان زمن ذلك قد انتهى، لتبدأ صفحة جديدة من الصراع، لا أحد بإمكانه توقّع نتائجها وتداعياتها على الجميع، إضافة إلى تساؤلات عن مدى استعداد السبسي لدفع كلفة هذا الاتهام الذي يمكن أن يتحول إلى صراع كبير، إذ يستهدف وجود "النهضة" أصلاً.

وتأتي هذه التطورات لتكدّر الوضع السياسي المتأزّم أصلاً، وتسهم في خلق مناخ صعب، على قاعدة الاتهامات بالانقلابات واستباحة كل الوسائل لضرب الخصوم. ولكنها في كل الحالات تؤشر إلى شتاء سياسي بارد وطويل سيستمر في تونس لغاية خريف 2019، موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية، الذي ينتظره التونسيون ليتنفسوا أخيراً من حمى الصراعات السياسية التي تستهدف كل شيء وتضع مصلحة المواطنين في آخر أولوياتهم، وربما تضر بالتجربة الديمقراطية.

المساهمون