طالب رئيس بنك الإسكان والتعمير المصري، فتحي السباعي، الأسبوع الماضي، الشباب بتغيير ثقافتهم السكنية والقبول بمساكن بمساحة 35 متراً. وردّ المشكلة السكنية إلى حالة الاستقرار السياسي والاقتصادي التي تعيشها مصر والتي رفعت معدلات الطلب على الوحدات السكنية وعجّلت من الاستثمار العقاري.
لم يكن ينقص تصريح السباعي الفوقي والمستفز والذي وصفه المواطنون بـ"الافتكاسة" (كلمة شعبية تعني قصصاً مخترعة أو غير صحيحة)، سوى التبرير الذي لحقه. ولا حاجة هنا للكثير من التمحيص في التصريح للخروج بسؤال بديهي: إن كان الاقتصاد منتعشاً، فلم يطلب رئيس بنك الإسكان من الشباب السكن في "أقنان دجاج"؟ طيب، فلنعكس السؤال تماماً: إن كان شباب مصر يسكنون في الأقنان، فكيف يمكن وصف الاقتصاد بالمنتعش؟
تصريح السباعي المقتضب يحمل الكثير من القواعد التي يتم من خلالها رسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية في مصر كما في غيرها من الدول العربية، وأبرزها الفصل بين رفاهية الناس من جهة والنمو الاقتصادي من جهة أخرى. فصل تحوّل إلى معادلة رياضية معتمدة في مصر ودول عربية أخرى، عززته الوصفات السحرية للمنظمات الدولية التي تدعو إلى سياسات تزيد من الحرمان والفقر، من فتح الأسواق للإغراق، وصولاً إلى رفع الدعم، كل ذلك من أجل تمتين الوضع المالي للدول لتمكينها من الاستدانة.
كما تقوم هذه القواعد على اختصار مصالح غالبية المواطنين بقلة من المتمولين واعتبارها أساس التشريع وأساس المشاريع، ما أصبح عادة متناقلة بين الأنظمة. إضافة إلى الاستهتار بالحقوق الإنسانية البديهية، وعدم تأمين الخدمات الأساسية للمواطنين التي من أجلها ينتخبون الحكومات والرؤساء... وكذا يبرز في هذا الإطار، تهرّب الدولة من تحمّل مسؤوليتها المركزية في إدارة أموال المكلفين والمنتجين وعموم المواطنين بعدالة ومساواة ونزاهة، واستحقار للناس واعتبار أصواتهم من المسلّمات في المعارك الانتخابية...
مشكلات التضخم، البطالة، الفقر، الاحتكار، الفساد، التزاوج السلطوي ـ الاقتصادي، كلها ليست جديدة. ومن أجل وضع حلول لهذه المشكلات، تصرف الدولة ملايين الدولارات على الدراسات والأبحاث، ليصبح لدى مصر مئات الآليات التي يمكن اتباعها لإيجاد حلول لمشكلات مرت بها دول كثيرة، وعرفت كيف تجد طريقة لمحاصرتها.
هي مشكلات اقتصادية واجتماعية غير فضائية، وحلولها ليست مريخية، ما يعني أن المشكلة تكمن في من يرسم السياسات. لكن الأخير يطلب من مواطنيه أن يتحولوا إلى دجاج لكي يجدوا مكاناً ليسكنوا في بلدهم، لأن مصلحة المضاربين العقاريين أقوى، ولأن الصفقات كثيرة في الانحياز لمن هو أقوى.
سخر المصريون كثيراً من تصريح رئيس بنك الإسكان، لكن المزاح لا يلغي أن ما يقوله السباعي جدي جداً. فنظام مبارك سبق نظام السيسي إلى تسليع المواطنين والاتجار بهمومهم، إلا أن الأول لم يصل إلى ما وصل إليه الثاني. إذ إن المشروع القومي للإسكان والذي بدأ تنفيذه من عام 2005 وحتى عام 2012، طرح مساكن مساحتها 42 متراً، أي أكبر من مساكن السباعي بسبعة أمتار.
خطة السباعي ليست "افتكاسة"، ولا "هزار"، إنما محور الخطة المتغوّلة التي تطبّق في مصر... هي الهلاك المستمر.
إقرأ أيضا: المساعدات: القروض والمنح لا تحقق التنمية وتعمّق التبعية