الرواية الفلسطينية: أبعد من ضجيج الجوائز

28 ابريل 2016
أحمد نعواش/ فلسطين
+ الخط -

لا يفلت الفلسطيني من "الغضب" محفِّزاً للكتابة ولنقد ما يُكتب عن فلسطين كذلك، غير أن هذا الغضب يسير غالباً باتجاهين؛ تشاؤم العقل الذي لا يبعث الأمل إلاّ في مخيلة الرومانسيين، وتشاؤم آخر يحيل إلى تبرير التنازلات السياسية ومنحها بعداً إنسانياً.

القلق الذي يساور الفلسطينيين حيال هذه الصورة الحادة عن أدبهم لا يخصهم، وحدهم، بل ينطبق على معظم الكتابة العربية، التي تنشطر ضمن هذه الثنائية على نحوٍ أكثر هشاشةً في النص وفي الواقع أيضاً.

فوز ربعي المدهون بجائزة "البوكر العربية" عن روايته "مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة" يأتي ضمن هذه المعادلة، إذ غلبت العواصف السياسية والأزمات الاجتماعية الحادة في بلداننا العربية على مضامين غالبية الروايات الفائزة خلال السنوات السبع الماضية، وتسابق نقّاد الأعمال الفائزة للاستناد إلى مرجعيات "مثالية" في قراءتها وتقييمها.

لكن يمكن القول هذا العام إن الاحتكام إلى "الضمير" الفلسطيني لا يزال مؤثراً لدى مخاطبة المتلقي عبر الإعلام، ما يمكن تلمسّه في الرسائل التي أطلقها نقّاد وصحافيون عند تناول رواية المدهون طوال العام الماضي.

عند تتبع نتائج الجائزة في دوراتها السابقة، نلحظ أن الجدل ينصب على الجغرافيا التي ينتمي إليها العمل الفائز، ومحاولة تصدير "مظلومية" الروايات الخاسرة على أساس انتمائها الجغرافي، وهذا يحسب للقائمين على الجائزة في ابتكار "داروينية" روائية تخلق تنافساً موهوماً بين البلدان العربية.

ومن جهة أخرى، فإن الاختلاف يأخذ أبعاداً سياسية بين مواطني البلد الذي نال كاتب منه الجائزة، فيرى بعضهم أن عمله يشكّل نقلة استثنائية في قراءة الراهن، مقابل آخرين لا يجدون تلك الأهمية المزعومة.

ليس اختراعاً جديداً القول إن الخلاف على "الراهن" لأسباب موضوعية أو شخصية في واقع متشظ هو مقدَّم على مقاربة الكتابة الروائية في سياق بنيتها الفنية وأسلوبيتها ولغتها، وقد حكمت هذه الخلافات النظرة إلى الروايات الفائزة في الدورات التسع الماضية، وأيضاً تلك المرشحة ضمن القائمتين القصيرة والطويلة.

ولا يبتعد عن هذا التشخيص بيان لجنة التحكيم التي أعلنت الجائزة هذا العام، حيث قالت إن "رواية "مصائر" تبتدع نسيجاً روائياً فنياً جديداً يصوّر تحوّلات المسألة الفلسطينية وتثير أسئلة الهوية وتستند إلى رؤية إنسانية للصراع".

الرؤية للصراع العربي الصهيوني كانت الأساس، فركّز المتحمسون للعمل على متغيّر الزمن كمفتتح لقراءة "مصائر" المدهون، إذ اختلفت لحظة كتابتها عن تلك التي كتب فيها غسان كنفاني وجبرا وإميل حبيبي وغيرهم، وعلى ضرورة الانتباه إلى العقل "البارد" الذي بنى أحداث الرواية في تعامله مع صورة اليهودي وملامحه الإنسانية، وفي تقديره لرحلة الشتات الفلسطيني "بعيداً عن الأحكام الجاهزة" التي تضعها في خانة الحلم.

اللافت عند هذا الفريق أنه رغم إشادته بتعددية الرواية في النظر إلى حاضر الفلسطيني واليهودي ومصيريهما، لكنه لجأ إلى قيمة مطلقة وحكْم أحادي في تبرير مقولته ومهاجمة أصحاب "العقول المستقيلة" التي لا تزال تحتفي بـ"المفرد" الفلسطيني؛ ببطولاته وآلامه.

كما أن "فخاخ" التعدد الذي لا يقبل بإجابة وحيدة ويتركها مؤجلة يكاد يشكل خديعة للقارئ، بالنظر إلى إحالته إلى واقع تنعدم فيه الإجابات، لذلك يكون هدف التعدد لدى هؤلاء نسف رؤية بعينها ومهاجمتها من باب التخلّص من "ماضويتها"، والتأكيد على أن المستقبل لا يمنح أسراره لأحد.

غير أن المتربصين للرواية يقعون أسرى المثال الفلسطيني المنشود، فالحديث عن أخطاء ارتكبها المدهون في سرد أحداث وتسمية أمكنة قد تبدو صحيحة في ظاهرها، لكنها لا تلغي "الشخصنة" في المقارنة بين بطل الرواية "وليد دهمان" وبين سيرة صاحب "مصائر" حول تخلّي الأخير عن فلسطينيته وحصوله على الجنسية البريطانية، التي لا تزيد من قيمة منجزه ولا تنقصها في آن.

التناقض الأكبر لدى كلا الفريقين يكمن في إهدار جهدهم في إثبات أن المدهون ينتسب إلى أدب كنفاني وجبرا وحبيبي (على الفروق الكبيرة بين الثلاثة) أو أن لا صلة إبداعية تربطه بهم، كأن هذه المسطرة أو الأداة تشمل معايير نقدية أو فكرية متفق عليها حول كل واحد من هؤلاء الثلاثة، فالكل يعلم كيف يجري توظيف مواقف سياسية وثقافية متباينة بالاعتماد على رواياتهم ذاتها.

هل يمكن كتابة رواية فلسطينية بالتحرّر من صفات وأفكار مسبقة حولها وحول كاتبها؟ لا تبدو الإجابة عن هذا السؤال بسيطةً لدى وسط ثقافي يرتهن لمعادلات سياسية وشخصية تحول دون تبني الحد الأدنى من العقلانية التي تجعل "مصائر" بدايةً لـ"أدب فلسطيني جديد"، فقط لأنها لاقت هوى لدى صاحب هذه "النبوءة"، ولا تضع صاحبها في الوقت نفسه مستبطناً وجهة نظر عدوه لطبيعة الصراع بمجرّد أنها خالفت ثوابت تخص مُطلِق هذه الاتهامات!


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تبادل عناوين
ما معنى اهتمام الضحية بجلادها إبداعياً؟ كيف نقرأ عنوان رواية كـ "السيدة من تل أبيب" أو "كونشرتو الهولوكوست والنكبة" لكاتب فلسطيني؟ وكيف كنا سنشعر لو كان الكاتب إسرائيلياً وجاءت عناوينه كالآتي: "السيدة من يافا" وكونشرتو النكبة والهولوكوست"؟ هل كنا سنشعر براحة لأن كاتباً من معسكر العدو يأخذ قصتنا في الاعتبار؟ وكيف تؤثر عناوين المدهون ومضامينه في قارئ إسرائيلي أو غربي، في أقل تقدير؟

دلالات
المساهمون