للرواية الجزائرية محطات رمزية في تاريخها المتراكم، تشكّل خلفية لما يكتب اليوم، منها كتابة لوكيوس أبوليوس (125 ق. م/ 180 ق. م) في الشرق الجزائري لرواية "الحمار الذهبي" التي يعتبرها الباحثون أول أثر روائي عرفته الإنسانية؛ وكتابة ميغيل دي ثيرفانتس سابيدرا لروايته "دون كيخوتي دي لا مانتشا" أثناء أسره في الجزائر العاصمة مطلع القرن السابع عشر؛ ورواية "حكاية العشاق في الحب والاشتياق" للأمير مصطفى بن إبراهيم باشا (1806 ـ 1886) التي كتبت قبل رواية "زينب" لحسنين هيكل بثلاثة عقود.
كما كان مطلع العشرينيات من القرن العشرين مدخلاً لشروع الجزائريين في الكتابة باللغة الفرنسية التي دشنها محمد بن أحمد بن الشريف برواية "غومي" عام 1920، مروراً بـ"نجمة" كاتب ياسين (1956) التي أحدثت خلخلة في بنية الفن الروائي الجزائري، بما في ذلك المكتوب باللغة العربية. ونذكر أيضاً تجارب عبد الحميد بن هدوقة ورشيد بوجدرة والطاهر وطار، وصولاً إلى تجربة أحلام مستغانمي الجديرة بالتحليل، من باب غزوها لخارطة المقروئية العربية. فهل استفاد المشهد الروائي الجزائري من هذه التراكمات؟
لارتباط الثقافي بالسياسي في الجزائر، بعد الاستقلال الوطني مطلع الستينيات، كانت آثار سلبية، منها قيام العلاقة بين الأجيال الأدبية على الصراع لا الإبداع، حيث تكرّست النزعة الإلغائية المتبادلة بين هذه الأجيال، وأصبح الاختلاف في اللغة أو الجهة أو التوجه مدعاة لمعارك تبدأ ولا تنتهي، ما حرم المشهد الأدبي الجزائري من عناصر ثرائه.
أمام هذا الوضع، اقتربت "العربي الجديد" من بعض الأصوات الجديدة التي ظهرت في السنوات الأخيرة، قصد معرفة أسئلتها وهواجسها في الكتابة، خاصة سؤال الإضافة والتجاوز، باعتباره العتبة الأولى لفعل التحدي الذي تجد نفسها ملزمة بممارسته، كي تتجاوز فخاخ مشهد أدبي مدجّج بالجحود والتهميش منذ نعومة حروفها.
يقول سعيد خطيبي الذي أصدر روايته الأولى "كتاب الخطايا" عام 2013 إنه يجب التحرر من فخ الرقابة الذاتية في رسم صورة الواقع الجديد، فالرواية الجزائرية تبدو كما لو أنها في علاقة ودّ مع السلطة. تغض الطرف عنها أحياناً، وتتواطأ معها أحياناً أخرى.
إنه عبء ـ يعتقد خطيبي ـ سيحمله الكتّاب الشباب اليوم، بحكم أن الرواية الجزائرية ظلّت، خلال العقدين الماضيين تراوح مكانها. حيث حصرت التابوهات في الثلاثية الكلاسيكية: الجنس والدين والسياسة، وهو ـ بحسبه ـ تضييق للأفق الإبداعي، داعياً إلى الخوض في الأسئلة الأكثر حساسية، مثل سؤال التاريخ الملتبس، وتغييب الأصوات المختلفة.
وتساءل خطيبي: متى نقرأ في الجزائر رواية من داخل الفضاء الإباضي مثلاً؟ أو من داخل بيئة الطوارق، بعيداً عن النظرة الإيكزوتيكية طبعاً؟
ونقلنا هذا الهاجس إلى محمد علاوة حاجي الذي أصدر روايته الأولى "في رواية أخرى" عام 2013، فقال إن النص الروائي، في النهاية، ليس تقريراً صحافياً، والروائي ليس محلّلاً سياسياً أو اجتماعياً، ورؤيته للواقع في نصوصه مطلوبةٌ، لكن ليس خارج أدبيتها.
ودافع حاجي عن جرعة الهذيان التي تطبع كثيراً من المتون الشبابية، لأنها بحسبه طريقة مغايرة لقراءة الواقع، بعيداً عن التقريرية والمباشرة، فالواقع مربك ومرتبك، ومن القصور الإبداعي التعامل معه خارج جمالية الارتباك.
وأشار إلى أن ميزة الأصوات الروائية الجزائرية الشابة هي استقلاليتها عن المؤسّسات والأطر الفكرية والحزبية التقليدية التي ظلّت أجيال من الروائيين الجزائريين مرتبطة بها، بحيث أنتجت، على مدار عقود، رواياتٍ تبنّت أيديولوجياتٍ معيّنة بشكل سافر، وهو ما أخلّ بمصداقيتها الأدبية.
وسألنا إسماعيل يبرير، الفائز بـ"جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي" عن روايته "وصية المعتوه" عام 2013، عن الطريقة التي استطاع فيها أن يسلّ نفسه من التعاطي الأيديولوجي في الكتابة الروائية، فقال إن القراءة بالنسبة إليه هي حالة تصيّد، وتبقى المتعة هي الرهان الأول، مضيفاً: "أنت تقرأ لتختبر التجربة المختلفة، ومن هذا المبدأ يحصل كثيراً أن تصاب بصدمة عندما تواجه نصاً متواضعاً يحظى باهتمام أكبر منه، فقط لأنه متورّط في أيديولوجيا ما".
وعبّرت هاجر قويدري، الفائزة هي الأخرى بـ"جائزة الطيب صالح" عن روايتها "نورس باشا" عام 2013، عن استيائها من خلوّ المشهد الجزائري من مبادراتٍ جادة، تأخذ بيد الكاتب الشاب الذي لا يجد فرصة للظهور إلا إذا غادر إما إلى فرنسا أو إلى المشرق العربي، بحسب اللغة التي يكتب بها، أو حصل على جائزة وازنة في الخارج، مثلما حصل مع أحلام مستغانمي.
أما نعيمة معمري، التي أصدرت روايتها الأولى "أعشاب القلب ليست سوداء" عام 2012، فلا ترى في شهرة صاحبة "ذاكرة الجسد" عائقاً أمام الروائيات الجزائريات، ذلك أن الكتابة رهان شخصي، وأي تقليد لتجربة ناجحة، بعيداَ عن مراعاة خصوصية الذات الكاتبة، والسياق الذي أنتجها، هو تعسف لن ينتج إلا الفشل.