الإجراءات المتّبعة تستدعي أن أجلس في ردهة الانتظار الزرقاء ريثما يُسمح لي بالدخول. لم تكن زرقاء ذلك الوقت، لأنه في تلك الساعة من الظّهيرة، تُدخل النّافذة الكبيرة المُطلة على شارع "بسمان" ضوءَ النهار الساطع بشكلٍ جيد. لكن في الليل، كل شيء يُصبح أزرق خافتاً.
وقفتُ أمام موظفة الاستقبال، سخُن وجهي، كما في كل مرة، وأنا أحاول أن أرخي ربطة العنق. فكّرت للحظة بأنّ ربطة العنق دائماً ما تخنقني: الكتالوغ، من فضلك، آنستي. نظرَت إليّ برهة. قالت: أجل، ثوان.
رحتُ، خلال هذه الثواني، أنقر بأصابعي، وأدندن من أنفي فقط، لحناً عادياً ورديئاً، وأنظر إلى اللوحات الرخيصة المعلقة فوق الجدران وإلى الأيقونات المتسخة المصفوفة على الأرفف. ناولتني الموظفة الكتالوغ. نظرتُ إليه برهة، أغلقته بغضب مكتوم. فكرتُ بحجم الغباء وقلة النباهة التي تتمتع بهما هذه الموظفة، لماذا تضطرّني للحديث، وتبادل الحوار المقيت معها حول أشياء يجب أن تكون بديهية بالنسبة إليها.
أعدته إليها بهدوء: "آنستي، يبدو أنك جديدة هنا، إذ لم أرك من قبل".
لا لستُ جديدة، إنما جئت لقسم الاستقبال حديثا. صمتُّ قليلاً، رفعتُ عيني إلى السقف ثم عدتُ إليها، "حسناً، حتى هذا الأمر لا يجعل منك بليدة إلى هذا الحد. أريد الكتالوغ الآخر، من فضلك". حتى أنني، ومن شدة غضبي المكتوم، قلت كلمة الآخر، بتشديدٍ واضح ونبرةٍ أعلى.
ارتبكتْ قليلاً. زرّت عينيها وهي تتطلَّع إليّ، مطّت رقبتها. ألقت نظرة سريعة خلفي، على الرجلين الجالسين في ردهة الانتظار، همست بيني وبينها: "اعذرني سيدي، لكن لم يحن الوقت بعد، تعال في المساء".
كتمتُ الغضب، من جديد، في نبرة وطريقة كلامي: "في المساء؟!". "أجل، أيها السيد، فقط في المساء، تغيّر كل شيء، تعال في المساء، بعد الثامنة، من الباب الخلفي". وأشارت بيدها إلى ناحية ذلك الباب.
وجدتُ نفسي تلقائياً أشير بيدي مثلها، وأقول الباب الخلفي؟ هزّت رأسها وهي تحدّق في عيني. "أجل، بالتأكيد الباب الخلفي، في الساعة الثامنة".
نظرتُ إلى الساعة، كانت الثانية والربع بعد الظهر. تظاهرت بأن الأمر ليس بهذه الأهمية، "أجل. في المساء في المساء. لا يهم، هذا جيد". ابتسمتُ لها وخرجت.
ابتعت خبزة بيضوية، كالغواصة، محشوة بالجبنة والزعتر والشطّة من بائع عربة. تناولتها، في السيارة، بهدوء تام وأنا أهز رأسي بينما أمضغها وأنظر إلى المارة. كنتُ أمضغ على مهل، لأجل أن أسناني بالكاد تلتصق بلثتي. شربت بعدها قنينة الماء الصغيرة كاملة. أعدت المقعد إلى الخلف، شعرت بالكسل والنعاس. عندما استيقظت فجأة على بوق سيارة مرتفع ومستمر، نظرت إلى الساعة، كانت الرابعة والنصف، رأيت عينيّ محمرتين في المرآة الفوقية. رأيت التجاعيد الكثيرة. أصلحت شعري الأبيض. فكّرت بأن هناك متسعا كبيرا من الوقت قبل الثامنة. أبقيت السيارة مركونة ونزلت.
أخذت مني النزهة الرّاجلة، في وسط البلد، ثلاثة أرباع الساعة تقريباً، أمشي متأملاً كل شيء في واجهات المحال الزّجاجية، لا سيما "المانيكانات" بالثياب الداخلية، مُعلقاً "جاكيت" بدلتي، على ظهري، بإصبعي السبابة فقط، كالخطّاف.
في الثامنة، كنتُ في ردهة الانتظار الزرقاء، أُدندن من أنفي، اللحن ذاته تقريباً. اللحن الرديء. تنحنحتُ، ونقرت بأصابعي على الكاونتر الخشبي. من بابٍ شبه معتم أطلّت موظفة أُخرى، غير تلك الأولى، ترتدي بنطالاً رياضياً ضيّقاً، تفرّست بي لبعض الوقت. ثم ناولتني الكتالوغ المحدد. ابتسمتُ لأجل اللباقة وحسن المبادرة لديها. نقرت بإصبعي السبابة على صورة محددة عدة مرات، فتاة سمراء، أحب هذه الفتاة، إننا لا نفعل أي شيء من ذلك المتعارف عليه في هذا المكان، نتحدث، فقط، دائماً ما تتحدث معي بشكلٍ جيدٍ ولطيف، أُخبرها عني وتخبرني عنها، إننا نبوح لبعضنا البعض باهتمامٍ واضح كالخلان، من الجيد أن يجد عجوزٌ وحيدٌ وهرم، كالجذع المتشقّق، شابة في أول العشرين تنصت إليه باهتمام.
سحَبتْ الموظفة الكتالوغ، ثم قالت: حسناً، تفضل، من هنا أيها السيد. وقبل أن أدخل خلفها، دقّ هاتفها النقال، أخذت تهز رأسها بارتباك: نعم. أجل. مفهوم، تمام. ثم أغلقت الهاتف. عادت أدراجها إلى الوراء، نحو كاونتر الاستقبال، قالت عذراً أيها السيد، لن نعمل اليوم. سنغلق الآن.
شعرتُ بخيبة تُشبه لطمة قوية على الخد وسط جمهور من الناس. أحجمت عن الكلام. إلا أنني قلت. الآن الآن؟
أجل. الآن.
ثم أخذتْ الكتالوغ، وأخفته في مكان ما. أطفأت الإنارة. وقالت: من فضلك، غادر. سنغلق. الأمر طارئ.
قلت: أجل. أجل، بالطبع، لا يهم.
نظرتُ إليها بجمود دون أن أقول أي شيء، أمسكتُ "جاكيت" بدلتي السّوداء، ومن جديد علّقته، كالخطاف، بإصبعي فوق ظهري. خرجت مُتهدلاً. شعرت بنفسي أصبحتُ أزرقَ عندما مررت من ردهة الانتظار الصّامتة، أزرقَ وبارداً. أردت أن أخرج لكن الباب كان موصداً. لحقتني فتاة البنطال الرياضي الضيّق، خرجت إليّ من مكان ما، كانت زرقاء أيضاً، قالت وهي تبتسم مُشيرةً إلى الباب الخلفي: "من هنا، أيها السيد! بسرعة لو سمحت. بسرعة، نحن آسفون". ضحكتُ بخفّة، بمسخ. قلت، "أجل، لا عليكِ، كنت ماراً في الجوار وحسب".
* كاتب من الأردن