الرجل البطيء

22 نوفمبر 2019
خالد حافظ/ مصر
+ الخط -

أدركتُ، مؤخّراً، أنني قد أُصبت بذلك المرض الذي تحاشى الملايينَ من الناس ليصيبني وحدي. لا أعرف بالضبط إن كانت هناك حالات مشابهة في مكان ما في هذا العالم، لكن عطفاً على البحث الذي أجريته عبر الإنترنت، لم تُسجَّل أية إصابة به حتى الآن. ربما هناك من أُصيب به ولم يخبر أحداً، أو ربما أخبرهم ولم يصدقّوه، ولأنه غير مشخَّص إلى الآن، فكّرتُ أن أُسجّله باسمي.

بدأ هذا المرض معي حينما كنت أقرأ رواية "الحمامة" لباتريك زوسكيند، فعندما استرحتُ قليلاً ورفعت رأسي نحو النافذة الصغيرة في الغرفة، وجدتُ حمامة بيضاء بريش منفوش تحوم فوق الساق الحديدية للنافذة من الخارج. لم يكن عليَّ أن أخاف منها. كان الأمر مجرّد صدفة جميلة، لكن حركات الحمامة لم تكن تبشّر بخير... إنها حمامة غاضبة وكأنها تعرف أنني أقرأ تلك الرواية، وما إن أكملتُها حتى ثبتت شكوكي نحوها حينما نقرَت الزجاج، وكأنها تقول لي إنني أعرفك.

حينها جفّ حلقي وارتعشَت يداي، وقرّرتُ أن أغادر الغرفة لأشرب الماء من الثلاجة، وعندما عدت وفتحت الباب، كانت قد انطلقت نحوي بخط مستقيم وبثبات وهي تصفّق بجناحيها بقوة، كأنها تودّ أن تُثبّت منقارها في صدري. وبدوري انخفضتُ إلى الأسفل، أو ربما سقطتُ على الأرض، لا أذكر بالضبط كيف تجنّبتُها، ولم أجد لنفسي خياراً سوى أن أهرب مع نسخة الرواية إلى خارج الغرفة بعد أن أغلقت الباب بالقفل والمفتاح.

خشيت أن أحكي ما حدث، فلا أحد كان سيصدّق أن الحمامة اخترقت النافذة رغم أنها كانت موصدة. لم يكن أمامي سوى أن أنتهي من الرواية، ربّما سأجد خطة للتخلُّص من الحمامة. كأن زوسكيند مرّر لي عبر النص أن هناك حقيقتين سيمر بهما أي شخص: إمّا أن تكون دائماً هناك حمامة حقيقية تحوم حولك، أو أن مخاوفك هي من تصنعها. عندما فتحت الباب مجدّداً، كانت الحمامة قد اختفت، ولم تترك أي أثر خلفها، لم تكسر زجاج النافذة مثلما توقّعت. اختفت كأنها لم تكن أبداً.

ظهرت أعراض المرض في المرّة الثانية حين كنتُ أقرأ كتاب "الجرذان التي لحست أذنَي بطل الكراتيه". كنتُ ممدّداً على ظهري وأسند رأسي إلى حافة السرير، وهناك حتى شعرت بثقل ما على صدري، وعندما أزحت الكتاب ببطء عن وجهي، وجدتُ جرذاً أسود مغطّىً بالقاذورات يجثم على صدري. صرخت بأعلى صوتي بعد أن قذفت بالكتاب إلى الأعلى، وركضت نحو الباب. ولحسن حظي، كان الكتاب قد سبقني إلى هناك.

لم أصدّق ما حدث، وبالتأكيد لم يكن كلّ ذلك صدفة. إنه اختلال أو انهيار نفسي. كنت لأقول إنني أتخيّل تلك الأشياء لولا أنني شممتُ رائحة الجرذ القذرة ولمست ذيله القبيح عندما قفزتُ بعيداً عنه. لم يكن عليَّ سوى أن أنتهي من الكتاب لأعرف أنَّ الحياة فيها الكثير من الجرذان القذرة، وأنّه ليس عليَّ أن أخشى من وجود حمامة غاضبة في حياتي.

في الأيام اللاحقة، تواترت الأحداث ووصل المرض معي إلى مراحل خطيرة؛ فمثلاً، سقط دون كيخوته عن حصانه قرب خزانة الملابس بعد أن اقتلع النافذة مع الجدار، ثم استقام وضمّ درعه إلى صدره، وضرب الخزانة ضربةً مستقيمة حتى انهارت على الأرض، رفع صحن الشوربة البرونزي من على رأسه وانحنى أمامي قائلاً: "يُشرّفني أيها الرجل النبيل أن تعمّدني هنا في قلعتك هذه، بعد أن طعنت تنّين النار في خاصرته أمامك، وحميتك من شرّه، وإنني أود أن أفني عمري في حمايتك وخدمتك".

مكث الفارس الجوال عندي ثلاث ليال يشاركني طعامي ويشرب عصير العنب على أنه نبيذ، حتى انتهيتُ من الرواية السميكة فولّى مسرعاً نحو الطواحين، وعندها قرّرتُ بألا أتورّط مع رواية سميكة أخرى، خشية أن تلاحظ أُمّي زوّاري ثقيلي الدم هؤلاء، لكن مع "سدهارتا" كان الأمر مغايراً، ظلّ صامتاً تحت المنضدة، يجلس القرفصاء وكأنه موجود في أي مكان آخر سوى هذه الغرفة.

يوماً بعد يوم صرت أتعايش مع مرضي وأُحبّه، رغم خشيتي من أن تخرج الأمور من يدي ويُفتضح أمري، لكنّني قرأتُ "مزرعة الحيوان" دون أن أُبالي، حتى ازدحمت الغرفة بالخنازير والأحصنة والثعالب والكلاب، ولم أنتبه حتى وجدتُ نفسي مزوياً إلى الحائط بعد أن دفعتني بقرة بيضاء سمينة إلى هناك. اختنقت، رحت أتنفّس الهواء بصعوبة، كأنها آخر لحظات حياتي، ولم أكن قادراً على دفعها عنّي بيديّ، ففكّرت أن أصبّ كل تركيزي على صفحات الكتاب لأنتهي منهم جميعاً، وهذا ما حدث بالفعل.

في اليوم التالي، بدأت بقراءة رواية "الرجل البطيء" للكاتب الجنوب أفريقي ج . م. كوتسي، وسرعان ما انتبهت إلى أنَّ الرجل المقعد على كرسيه المتحرّك يشاركني الغرفة، عرفتُ عن قصّته وكيف أنه فقد ساقه في حادث اصطدام. حين كان يمرّ في الشارع على دراجته الهوائية ظهر له من المنعطف سائق سيارة يسير بسرعة جنونية وحدث ما حدث. فرحتُ برفقته في البداية، لأنه ليس مجنوناً مثل دون كيخوته ولا مخيفاً مثل الحمامة ولا بشعاً كالجرذ، رجل مسالم يمكنني أن أتبادل معه أطراف الحديث، لكنه سرعان ما اشتكى من ألم في ساقه عند النهاية المبتورة، حيث بدأت خيوط الجرح تسبّب تورّماً وحكّة شديدة الألم.

أوصاه الطبيب بأن يتجنّب حكّ هذه المنطقة خشية أن تنفكّ الخياطة وينزف الجرح من جديد. كان يتلوّى أمامي من الألم، يمسك بقوّة حول موضع الجرح دون أن يسمح لنفسه بالقيام بتلك الحكّة، وهذا ما قاده إلى أن يطلب منّي إنهاء وجوده أو أن أُرجعه للكتاب، وهذا ما فكرت فيه. عدتُ للقراءة بسرعة فائقة، وددت أن أنتهي منها وأُحرّر الرجل من كل تلك الآلام، لكن سرعان ما اكتشفت أن الرواية لن تنتهي عند الصفحة 200، إذ ثمّة مئة صفحة مفقودة منها.

يبدو أنني قرأتها بنسخة رديئة أو مزوّرة، ربما هو خطأ مطبعي، لا يهم ذلك، لكن الرجل ما زال يتلوّى ويستنجدني، هرعت إلى صاحب المكتبة وأخبرته عن المئة صفحة المفقودة، اعتذر منّي وأخبرني بأنه مدين لي بالمال على ما حدث، لكنني طلبتُ منه نسخةً أخرى كاملة، فصعقني بأنها كانت آخر نسخة من الطبعة، وعليّ أن أنتظر ثلاثة أشهر إضافية حتى تصدر الطبعة الثانية وأحصل على نسخة جيّدة.

لم أكن أعرف ما الذي عليّ فعله. الرجل في غرفتي ما زال يتألم، وليس لدي حلّ آخر سوى أن أبحث عن شخص ما يملك نسخةً كاملة من الرواية. كان عليَّ أن أكتب إعلاناً في الجريدة: "الرجاء ممّن يملك نسخةً من رواية "الرجل البطيء" للروائي الجنوب أفريقي ج . م كوتسي، ويودّ بيعها، أن يتواصل معي عبر هذا العنوان: الكرادة داخل، شارع الأورزدي، عمارة 9، شقة رقم 23".


* كاتب من العراق

المساهمون