08 نوفمبر 2024
الربيع العربي .. نسخة ثانية أم ثورة تصحيحية؟
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
شهد العالم العربي موجةً ثورية ثانية، عمّت السودان والجزائر والعراق ولبنان، وكانت، لأسبابٍ موضوعية، خارج دائرة توقعات الباحثين والخبراء. بيد أن منطق التاريخ؛ في أحيانٍ كثيرة، يرفض الخضوع للتقدير والتوقع، فشعوب الأنظمة الطائفية والعسكرية المعروفة بالولاء قرّرت بدورها الثورة على الاستبداد، ببعث النفس الثوري في الشوارع العربية.
اتسمت الموجة الجديدة؛ بالمقارنة مع سابقتها، بمميزاتٍ كانت مفتقدةً في الأولى. ويرجّح أن يكون غيابها قد ساهم، بدرجاتٍ متفاوتة؛ حسب سياق كل دولة، في الحيلولة دون تحقيق هذه الثورات أهدافها، فانعدام تلك المميزات كان مطيةً أحسنت القوى المضادّة للثورة توظيفها، قصد الإجهاز على المشروع الإصلاحي الكبير الذي انطلق من تونس عام 2011، رافعا شعار إخراج العرب من ظلمات الاستبداد نحو رحاب الحرية والديمقراطية.
دالت أحوال المنطقة العربية، ما بين عامي 2011 و2019، لتؤكّد على نهاية متلازمة الاستقرار مقابل الاستبداد التي فرضت بها وكلاء الاستعمار أنفسهم على الشعوب، فبعد ثماني سنوات فقط، وهو زمن قياسي في مسار الثورات، قرّرت الشعوب استئناف المد الثوري، بخوض جولةٍ جديدةٍ في مباراة التحرّر من القهر، والانعتاق من براثن السلطوية.
قرّرت الشعوب العودة إلى الشوارع، في مناخ عالمي سمته الاحتجاج والغضب الشعبي، والتي يرجّح أن تزداد حدّتها هذه السنة، من أجل مواصلة معركتها من أجل الحرية والتغيير، بعد أن استخلصت القواعد والدروس، واستقت العبر والمواعظ، وراجعت نفسها، وحسابات في الميدان. وظهر ذلك بوضوحٍ في تجاوز المحتجين في هذه الدول أخطاء وهفوات عديدة طبعت النسخة الأولى من الربيع العربي.
لقد رفض المحتجون الاحتفال بالانتصار النسبي؛ جرّاء سقوط أجزاء من النظام، بعدما استخلصوا درسا بليغا؛ غير قابلٍ للنسيان، من الثورة المصرية. جعلهم يردّدون في السودان "إما النصر أو
مصر"، وفي الجزائر "يتنحاو قاع" (يرحلوا جميعا)، وفي لبنان "كلّن يعني كلّن" (جميعهم).. مؤكّدين أن أصل المشكل مع النظام برمته، لما يمثّله من تحالفٍ موضوعيٍّ لقوى منتفعة من الاستبداد والفساد عقودا، من دون اهتمام بالأسماء والأشخاص. بهذا يقطع المتظاهرون مع حلّ جاهز، تجنح إليه السلطويات متى اشتدّ عليه الخناق، بفعل تصاعد وتيرة الاحتجاج، وفشل العنف والقوة في إرهاب المتظاهرين، مفاده التضحية برمز أو أكثر من النظام، لتهدئة الجماهير الغاضبة، فحيلة تحويل فرد إلى مشجب يحمل أوزار منظومة بكاملها لم تعد تنطلي على أحد. لقد تجاوزت مطالب الشعوب سقف إطاحة رأس النظام نحو استهداف بنية الدولة الاستبدادية في شموليتها.
تراجع الخطاب الأيديولوجي؛ بشقيه الطائفي والحزبي، في الساحات والميادين بشكل ملفت، لصالح خطابٍ وطنيٍّ جامع فوق هوياتي، فحضرت الأعلام والشعارات الوطنية التي تُجمع عليها كل القوى الفاعلة في البلد، فيما غابت بيارق الأحزاب والطوائف المذهبية، في مشهد وطني قلّما تراه في بلد عربي، فبالأحرى في دول كالعراق ولبنان، حيث بنية الدولة قائمةٌ على أساس المحاصصة الطائفية. ما يعني أن نقلةً نوعيةً حدثت في الوعي السياسي الجمعي لشعوب هذه الدول، وربما للمنطقة العربية برمّتها، لأن النجاح في تجاوز العقدة العرقية (أمازيغ، عرب، كرد...) والطائفية (سنة، شيعة، مسيحيون...)، يمثّل وعيا جمعيا قادرا على إحداث تحوّل جوهري، من شأنه إعادة صياغة بنية هذه المجتمعات على أساس وطني عابر للتصنيفات، وكذا بنية ممارسة السلطة داخلها، وفق قواعد ديمقراطية حقيقية، لا صورية كما يقع حاليا.
كانت هذه الموجة أكثر جذرية، مخافة تكرار أخطاء الموجة الأولى. وعلى الرغم من الاختلاف في التفاصيل والشروط الموضوعية لكل بلد، فتمت قاسما مشتركا بينها يتمثّل في تجاوز المؤسسات الوسيطة بين الشعب والسلطة، فالمتظاهرون في هذه الدول، باستثناء السودان (تجمع المهنيين)، رفضوا أن يتولّى أي تنظيم أو هيئة مهمة الحديث باسمهم، فالمحتجّون فقدوا الثقة في مكونات النظام؛ الحاكمة والمعارضة. وقد منح هذا القرار المتظاهرين القدرة على إدارة المعركة، في مواجهة الماسكين بالسلطة، فبقيت التظاهرات وفية للسلمية، على الرغم من محاولات الاختراق أحيانا، ومواجهتها أحيانا أخرى بالقوة المفرطة في بعض الدول (السودان، العراق ..). كما أبعد الثوار عن التبعية لخطط التنظيمات المعارضة (إسلامية، يسارية...) وإملاءاتها، مخافة تحريك المشهد الثوري لخدمة أجندتها. بهذا نجح المتظاهرون في تحصين حراكهم من أي شكل من القرصنة أو التوجيه أو المزايدة.
لم تحظ النسخة الثانية من الثورات العربية بالاحتفال الجماهيري نفسه، والتلقي الإعلامي الذي
نالتهما الأولى، فالشكوك والمخاوف من أن تلقى مصير سابقها كبيرة، خصوصا في ظل ما يشهده السياق الدولي من متغيراتٍ تساعد على وأد هذا المد الثوري في مهده، ما حوّلها أسابيع لمجرّد أحداث عادية واحتجاجات روتينية، لم تسترع ما تستحق من الانتباه إقليميا ودوليا، حتى بدأت تعطي ثمارها، بإجبار رموز النظام على الاستقالة والتنحّي. كان هذا التجاهل في صالح المحتجّين، حيث ظلوا بعيدين عن ضغط الصحافة وتغطيات الإعلام المباشرة، ما أتاح لهم فرصة التحكّم في إدارة المعركة، وإنضاج القرارات والخطوات بهدوء ورويّة. كما ساهم نسبيا، مع عوامل أخرى داخلية وإقليمية وحتى دولية، في الاستبعاد المؤقت لحلف الثورات المضادّة.
لا يجدر بالمحاولات التصحيحية التي قام بها الثوار في النسخة الثانية من الربيع العربي أن تدفعنا إلى الإفراط في التفاؤل، فما قد يبدو نعمةً في سياق، قد يتحوّل إلى نقمةٍ في سياقٍ آخر. فعلى سبيل المثال، غياب القيادة الثورية الذي بدا ملمحا رئيسيا في هذه النسخة، عكس الأولى التي سيطرت عليها نخب المعارضة التقليدية، قد ينقلب إلى مشكلة، فمن شأن بقاء الحراك بدون مخاطب أن يعيق علمية التغيير والتحول. يبقى ما يحدث، في النهاية، مؤشّرا على تهافت مقولة "الخريف العربي"، وسخافة سردية "رفض التربة العربية لبذرة الديمقراطية".
دالت أحوال المنطقة العربية، ما بين عامي 2011 و2019، لتؤكّد على نهاية متلازمة الاستقرار مقابل الاستبداد التي فرضت بها وكلاء الاستعمار أنفسهم على الشعوب، فبعد ثماني سنوات فقط، وهو زمن قياسي في مسار الثورات، قرّرت الشعوب استئناف المد الثوري، بخوض جولةٍ جديدةٍ في مباراة التحرّر من القهر، والانعتاق من براثن السلطوية.
قرّرت الشعوب العودة إلى الشوارع، في مناخ عالمي سمته الاحتجاج والغضب الشعبي، والتي يرجّح أن تزداد حدّتها هذه السنة، من أجل مواصلة معركتها من أجل الحرية والتغيير، بعد أن استخلصت القواعد والدروس، واستقت العبر والمواعظ، وراجعت نفسها، وحسابات في الميدان. وظهر ذلك بوضوحٍ في تجاوز المحتجين في هذه الدول أخطاء وهفوات عديدة طبعت النسخة الأولى من الربيع العربي.
لقد رفض المحتجون الاحتفال بالانتصار النسبي؛ جرّاء سقوط أجزاء من النظام، بعدما استخلصوا درسا بليغا؛ غير قابلٍ للنسيان، من الثورة المصرية. جعلهم يردّدون في السودان "إما النصر أو
تراجع الخطاب الأيديولوجي؛ بشقيه الطائفي والحزبي، في الساحات والميادين بشكل ملفت، لصالح خطابٍ وطنيٍّ جامع فوق هوياتي، فحضرت الأعلام والشعارات الوطنية التي تُجمع عليها كل القوى الفاعلة في البلد، فيما غابت بيارق الأحزاب والطوائف المذهبية، في مشهد وطني قلّما تراه في بلد عربي، فبالأحرى في دول كالعراق ولبنان، حيث بنية الدولة قائمةٌ على أساس المحاصصة الطائفية. ما يعني أن نقلةً نوعيةً حدثت في الوعي السياسي الجمعي لشعوب هذه الدول، وربما للمنطقة العربية برمّتها، لأن النجاح في تجاوز العقدة العرقية (أمازيغ، عرب، كرد...) والطائفية (سنة، شيعة، مسيحيون...)، يمثّل وعيا جمعيا قادرا على إحداث تحوّل جوهري، من شأنه إعادة صياغة بنية هذه المجتمعات على أساس وطني عابر للتصنيفات، وكذا بنية ممارسة السلطة داخلها، وفق قواعد ديمقراطية حقيقية، لا صورية كما يقع حاليا.
كانت هذه الموجة أكثر جذرية، مخافة تكرار أخطاء الموجة الأولى. وعلى الرغم من الاختلاف في التفاصيل والشروط الموضوعية لكل بلد، فتمت قاسما مشتركا بينها يتمثّل في تجاوز المؤسسات الوسيطة بين الشعب والسلطة، فالمتظاهرون في هذه الدول، باستثناء السودان (تجمع المهنيين)، رفضوا أن يتولّى أي تنظيم أو هيئة مهمة الحديث باسمهم، فالمحتجّون فقدوا الثقة في مكونات النظام؛ الحاكمة والمعارضة. وقد منح هذا القرار المتظاهرين القدرة على إدارة المعركة، في مواجهة الماسكين بالسلطة، فبقيت التظاهرات وفية للسلمية، على الرغم من محاولات الاختراق أحيانا، ومواجهتها أحيانا أخرى بالقوة المفرطة في بعض الدول (السودان، العراق ..). كما أبعد الثوار عن التبعية لخطط التنظيمات المعارضة (إسلامية، يسارية...) وإملاءاتها، مخافة تحريك المشهد الثوري لخدمة أجندتها. بهذا نجح المتظاهرون في تحصين حراكهم من أي شكل من القرصنة أو التوجيه أو المزايدة.
لم تحظ النسخة الثانية من الثورات العربية بالاحتفال الجماهيري نفسه، والتلقي الإعلامي الذي
لا يجدر بالمحاولات التصحيحية التي قام بها الثوار في النسخة الثانية من الربيع العربي أن تدفعنا إلى الإفراط في التفاؤل، فما قد يبدو نعمةً في سياق، قد يتحوّل إلى نقمةٍ في سياقٍ آخر. فعلى سبيل المثال، غياب القيادة الثورية الذي بدا ملمحا رئيسيا في هذه النسخة، عكس الأولى التي سيطرت عليها نخب المعارضة التقليدية، قد ينقلب إلى مشكلة، فمن شأن بقاء الحراك بدون مخاطب أن يعيق علمية التغيير والتحول. يبقى ما يحدث، في النهاية، مؤشّرا على تهافت مقولة "الخريف العربي"، وسخافة سردية "رفض التربة العربية لبذرة الديمقراطية".
دلالات
محمد طيفوري
كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.
محمد طيفوري
مقالات أخرى
23 أكتوبر 2024
11 أكتوبر 2024
22 سبتمبر 2024