تحلّ الذكرى السابعة لمجزرة فضّ اعتصامي رابعة والنهضة في مصر، لمؤيدي الرئيس الراحل محمد مرسي ومعارضي انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013، في وقت تستعد فيه دائرة رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، لإدخال مجموعةٍ جديدة من التعديلات على الدستور الحالي في أعقاب انتخاب مجلسي الشيوخ والنواب، وبالتزامن مع انقضاء الفصل التشريعي الأول لمجلس النواب في عهد السيسي، من دون تنفيذ الإلزام الدستوري المذكور في المادة 241، والمرتبط بالعدالة الانتقالية. وتلزم المادة، مجلس النواب في أول دور انعقاد له بعد نفاذ هذا الدستور، بإصدار قانون للعدالة الانتقالية، يكفل كشف الحقيقة، والمحاسبة، واقتراح أطر المصالحة الوطنية، وتعويض الضحايا، وفقاً للمعايير الدولية، وهو ما لم يحصل، ما يجعل منها مجرد حبر على ورق، لم تجد طريقها حتى لمناقشة جادة تحت قبّة البرلمان.
وتهرّب النظام من هذا الالتزام الدستوري طوال هذه المدة، ليتجنّب فتح مجال قد لا يغلق من الملاحقة القضائية المحلية والدولية. فالعدالة الانتقالية، بتعريفها البسيط وخطواتها المذكورة نصّاً في الدستور، تتضمّن إجراءات قد تصل إلى محاكمة من وصفتهم لجنة تقصي الحقائق الحكومية المصرية بأنهم "استخدموا القوة المفرطة"، لكشف حقيقة ما دار في ذلك اليوم من سفك لدماء الأبرياء بادعاء التحذير المسبق، وأن ما حدث كان مصيراً محتوماً لإنهاء الاعتصامين لإعادة الأوضاع في الشوارع إلى نصابها. وسيستوجب ذلك بالضرورة تعويض الضحايا الذين سقطوا ولم يتمكن ذووهم وأصدقاؤهم وشركاؤهم إطلاقا من الحصول على حقوقهم، أو تبرئة ساحاتهم، بل إن الآلاف منهم قتلوا أحياء مرات أخرى على مدى السنوات السبع الماضية، بالسجن وأحكام الإدانة الجائرة لانتمائهم لجماعة الإخوان أو تأييدهم إياها ولمشاركتهم في الاعتصام، أو بغلق كل مجالات البقاء في مصر ليهربوا إلى الخارج، أو بمصادرة أملاكهم داخل البلاد بزعم تمويلهم جماعة إرهابية.
تهرّب النظام من الالتزام الدستوري بقانون العدالة الانتقالية ليتجنب فتح مجال قد لا يغلق من الملاحقة القضائية المحلية والدولية
غلق مجال كشف الحقيقة والمحاسبة ليس جديداً على النظام المصري، بل هو ديدنه، للتهرب من اتهامات واضحة بالإبادة وقتل المعارضين، خصوصاً أن كل الدلائل الموثقة في التقارير الدولية، وحتى المحلية والحكومية، تنسف محاولته تصوير ما حدث وكأنه كان معركة وجود بين تيار إرهابي وقوات الدولة، وأن كلا الطرفين كانا مسلحين، وأن الاعتصام كان خطراً على الأمن القومي، وأنه كان ساحة لارتكاب جرائم قتل وتعذيب لمعارضي مرسي ومؤيدي السيسي. ومن ادعاءات النظام أيضاً أن المعتصمين، ومنهم المقتولون والمتهمون الذين قدموا للمحكمة وأدينوا، حرضوا على قتل أفراد الجيش والشرطة خلال فضّ الاعتصام وما تلاه من أحداث شغب انتقامية ضد الأقسام في كرداسة بالجيزة وبعض محافظات الصعيد. ولا يستوي هذا التصوير مع أبسط الأدلة، وعلى رأسها ما أعلنه وزير الداخلية آنذاك محمد إبراهيم، من أن الشرطة وجدت في اعتصام رابعة 9 أسلحة آلية وطبنجة واحدة و5 مسدسات خرطوش، بعدما كان يُصور في وسائل الإعلام، وحتى الآن، بأن الاعتصام كانت به أسلحة ثقيلة.
وإمعاناً في رفض كشف الحقيقة، تجاهلت الأجهزة القضائية خلال التحقيق والمحاكمة واقعة مقتل عدد تراوح بين 600 و700 من المواطنين العزل، فلم يتم استدعاء أي من المسؤولين عن الفض، بينما وجهت للمعتصمين السجناء اتهامات تافهة بالنسبة لسفك الدماء، كتنظيم اعتصامات دون تصريح وتعطيل الطرق والمواصلات. حتى أن النيابة اكتفت بندب قاض من محكمة استئناف القاهرة للتحقيق في قتل المعتصمين، كواقعة مستقلة بذاتها عن جريمة الاعتصام، لكن ما حصل فعلياً في ذلك التحقيق، من واقع أوراق حصلت عليها "العربي الجديد"، اقتصر على تجميع محاضر إثبات الوفاة وبعض المحاضر الشرطية الإدارية التي وثقت خلال ساعات الفض، وأثبت فيها جميعاً أن الفضّ تمّ بواسطة قوات الشرطة، بعد استئذان النائب العام الراحل هشام بركات، في محاولة لتقنين إجراءات الفضّ وما ترتب عليها من سفك للدماء.
وفي سياق محاولاته المستميتة للتخلص من آثار الدم دون طائل، أصدر السيسي في يوليو/تموز 2018 قانون معاملة بعض كبار قادة القوات المسلحة، الذي يجيز له إصدار قرار بتحديد بعض الشخصيات العسكرية ممن تولوا مناصب قيادية في فترة تعطيل الدستور، التي وقعت خلالها أحداث "رابعة والنهضة"، ومنحهم حصانة نهائية من أي إجراءات قضائية بشأن أي جرائم وقعت منهم أو بمناسبة توليهم مناصبهم، وكذلك منحهم حصانة دبلوماسية تقيهم الملاحقة القانونية خارج مصر. كان هذا ردّ السيسي على محاولات النشطاء القانونيين من "الإخوان" والحقوقيين على حدٍّ سواء، على مدار الأعوام الخمسة الماضية، تحريك دعاوى أمام الجهات القضائية الدولية والمحلية في دول أجنبية لتوقيف السيسي وقيادات أخرى، باعتبارهم مسؤولين عن مذبحة تصنف كجريمة ضد الإنسانية، لكن الإجراءات لم تفلح حتى الآن.
والسيسي نفسه على رأس الشخصيات العسكرية المستفيدة من هذا القانون للإفلات من أي ملاحقة قضائية محلية أو دولية بسبب اعتصام رابعة، فهو المسؤول الأمني الأول في البلاد وقت الأحداث، ولن يكون بمعزل عن المحاسبة إذا تغير النظام السياسي بثورة أو بطريقة سلمية، وحتى إذا لم تنته المساءلة بإدانته، فهو لا يرغب في وضع نفسه بموقف الرئيس المخلوع حسني مبارك الذي نال من محكمة النقض براءة باتة من تهمة قتل متظاهري ثورة 2011 بعد إجراءات استغرقت 5 سنوات.
فالتبعية المطلقة للنيابة العامة والسلطة القضائية ككل للنظام الحاكم، لا تبدو كافية ليأمن قادة السلطة الحاكمة وقت فضّ الاعتصام من خوف مقيم من أي محاسبة مستقبلية أو إجراءات قضائية دولية من شأنها تعريض شخصيات نافذة للخطر، كالسيسي نفسه أو وزير الداخلية آنذاك محمد إبراهيم، أو رئيس الوزراء آنذاك حازم الببلاوي، أو رئيس الجمهورية المؤقت السابق عدلي منصور، أو رئيس الأركان آنذاك ووزير الدفاع السابق صدقي صبحي، وكذلك رؤساء وقادة الفرق الشرطية والعسكرية التي شاركت في عملية الفض.
يذكر في هذا الإطار أنه بعد الفضّ بأشهر معدودة، اختفى وزير الداخلية الأسبق (محمد إبراهيم) بعد خروجه من التشكيل الحكومي، فسافر لفترة طويلة إلى دولة الإمارات، في خطوة فسّرها مراقبون بأنها إمعان في حمايته. وبعد عودته، ابتعد إبراهيم تماماً عن المشهد السياسي، شأنه شأن الببلاوي الذي ترك عمله في مصر وأصبح يقضي فترات طويلة في الولايات المتحدة كمستشار في صندوق النقد الدولي.
ويوفر القضاء غطاء لهذا الاتجاه الرسمي للتحصين والحماية وتجاهل كشف الحقيقة والمحاسبة، بإصدار أحكام تدين المجني عليهم لا الجناة، تقوم على العبث العمدي بالوقائع التاريخية، وتحمل مسؤولية الدماء لجماعة "الإخوان"، وتعصم الجيش والشرطة من المحاسبة، وتصور الاعتصام وكأنه مجرد محاولة للخروج على شرعية مزعومة تصدت لها الدولة لتحقيق الاستقرار. ولا بد للقانون أن يتضمن فترة زمنية محددة، ومن الصعب تجاهل أحداث جسام كفضّ اعتصامي رابعة والنهضة اللذين كان الرئيس الحالي أحد أصحاب القرار فيهما.
والواقع أن نظام السيسي، وهو في طور التشكيل بعد الانقلاب بأشهر معدودة وفي أعقاب وضع الدستور، كانت بعض دوائره تتعامل بجدية مع استحقاق العدالة الانتقالية، فوُضع عدد من مشروعات القوانين في عهد حكومتي حازم الببلاوي وإبراهيم محلب، لكن عقبات رئيسية كانت تقف أمامها، مثل أن القوانين الخاصة بالعدالة الانتقالية يجب أن تتضمن معايير عامة وقواعد صالحة للاستخدام في كل زمان، وغير انتقائية، لتسري أحكامها على جميع ضحايا الأحداث التي شهدتها البلاد، منذ تاريخ اندلاع الثورة في 25 يناير/كانون الثاني 2011. ومن الضروري أن يأتي ذلك مع ضمان تطبيق القانون على كل أحداث العنف من دون تمييز، والمساواة بين جميع الضحايا، سواء من الأمن أم المدنيين، علاوة على ضحايا التعذيب أو الإهمال داخل السجون، ما أدى لتعثر محاولات طرح مشروع متماسك على مجلس الوزراء.
بعض دوائر النظام حين كان في طور التشكيل تعاملت بجدية مع استحقاق العدالة الانتقالية، لكن مع صعود السيسي للسلطة، سادت رؤية مغايرة تشيطن لجنة إعداد الدستور
لكن بصعود السيسي للسلطة في يونيو/حزيران 2014 وإطلاق تصريحات متتابعة لازدراء الدستور، بداية من وصفه بـ"حسن النوايا" انتهاء بأنه "لا يبني بلداً"، سادت رؤية مغايرة في أوساط النظام تشيطن لجنة إعداد الدستور لوضعها هذا النص الدستوري، "وتعمد إحراج النظام الحاكم بعد الانقلاب". والمفارقة أن الهجوم على هذه المادة بدأ علناً مع تشكيل مجلس النواب الذي هو الجهة المخاطبة بالاستحقاق، والملتزمة دستورياً بإصدار القانون.
ففي مايو/أيار 2017، أعلن رئيس لجنة الإعلام في مجلس النواب ووزير الإعلام الحالي أسامة هيكل، عدم اعتزام البرلمان إصدار تشريع للعدالة الانتقالية، بحجة أن "المجتمع المصري غير مهيأ للمصالحة مع جماعة الإخوان، في ظل استمرار أعمال العنف، وعدم إعلانها الرغبة في المصالحة، وإجراء مراجعات على أفكار أنصارها". وأضاف هيكل، خلال مؤتمر صحافي عقده آنذاك، أنه "كان من الممكن التزام البرلمان بالدستور، في حال تضمنه صياغة أخرى، خلاف الواردة في المادة 241 منه"، معتبراً أنه "لا يمكن الالتزام بالمستحيل، لأن المادة الدستورية تنص في طياتها على المصالحة مع جماعة الإخوان، بينما المجتمع يرفض تلك المصالحة". وشدد على أن "المناخ الحالي لا يسمح بطرح مثل هذا القانون"، والذي وصفه بأنه "أحد فخاخ لجنة الخمسين لإعداد الدستور"، والتي ترأسها المرشح الرئاسي السابق عمرو موسى.
وأعلن هيكل أيضاً رفض ائتلاف "دعم مصر"، صاحب الأغلبية البرلمانية، مسألة إصدار قانون للعدالة الانتقالية، بعدما اتهم واضعي المادة الدستورية بـ"التواطؤ على الدولة". وقال "نحن لا نحتاج إلى قانون عدالة انتقالية، فالدولة باتت مستقرة، والمادة الدستورية كارثية، لأن طرح فكرة المصالحة سيؤدي لانقسام المجتمع من جديد... ثم ما المقصود بتعويض الضحايا؟ وهل كان يُقصد بهم ضحايا رابعة؟"، في إشارة صريحة لتخوف النظام وأجهزته من هذه المادة بسبب المذبحة.
وكانت هذه التصريحات ردا على مطالبات منظمات دولية عديدة، منها "هيومن رايتس ووتش"، بإصدار قانون للعدالة الانتقالية في وقت سابق، ينص على إجراء تحقيق محايد في وقائع القتل الجماعي للمتظاهرين في أغسطس/آب 2013، بعدما أكدت المنظمة ذاتها أن عدد ضحايا فضّ اعتصام رابعة لا يقل عن 1150 قتيلاً بين المدنيين، ووصفت ما جرى بأنه "أكبر مذبحة للمحتجين في التاريخ المعاصر، وجريمة ضد الإنسانية".
وفي 19 يناير/كانون الثاني 2018، قال السيسي، في فعاليات مؤتمر "حكاية وطن"، إن "جماعة الإخوان حاولت الترويج للخارج بأن ما حدث في 2013 (الإطاحة بمرسي) كان تغييراً بالقوة، وليس من خلال إرادة الشعب"، متابعاً "كانت هناك بؤرتان قائمتان (الاعتصامان)، والتعامل معهما كان يلزمه زخم شعبي على غرار ما حدث... فنزول ملايين المصريين في يوم التفويض منحنا شرعية للتحرك، حتى نعيد ضبط الأمن والاستقرار داخل الدولة". وأضاف السيسي: "هم اللي بدأوا.. ارجعوا لبيان 3 يوليو، لم يتم القبض على أي حد أو الإساءة لحد.. تركنا الناس في رابعة لغاية بعد العيد، أكثر من 45 يوماً، والناس اللي كانت بتتوسط قالولي في شهر رمضان: من فضلك متعملهمش حاجة، قولت ليهم يقعدوا بدل اليوم كذا يوم، بس ميخرجوش بره رابعة، على المطار والعباسية يقفوا حال البلد، قالولي: كتر خيرك" راحوا قالوا السيسي وافق، عشان هو خايف من الأمريكان، والله ما كنت خايف، أنا خايف من ربنا".
وزعم السيسي في ذلك الحديث النادر، أن "الإخوان هم اللي بدأوا.. هم اللي معاهم السلاح وبيفجروا، لو عايزين يعيشوا في سلام والله لن يتعرض لهم أحد"، مشيراً إلى أن "القوى المتطرفة حاولت استصدار عقوبات على مصر لهذا السبب، وهو ما كان من الممكن أن يحدث لولا تدخل بعض الأشقاء مثل الملك (السعودي الراحل) عبد الله بن عبد العزيز الذي رفض المساس بمصر"، وهو ما يعكس وعي السيسي الواضح لخطورة أثر المذبحة على دعائم حكمه.